جاء العيد، ولم يأت معه سوى جديد الثياب، جاء العيد ولم يأت معه سوى تلك العادات القديمة المتكررة التي كنا نفعلها قبل شهر رمضان، جاء العيد ولم تأت معه تلك القوافل التي كانت في الماضي تمر بمحاذاة هذا الطريق من القلوب التي علقت أمانيها ليلة العيد لتعيد الحياة إليها من جديد، ولتضع حزمة ورد عند كل باب قبل أن يشرق الضوء بضحكة فارعة تطال السماء، عندما كان النوم يجافي عيون الأطفال لأن العيد غدا، وعندما كانت الأحذية الجديدة توضع أمام الثوب الجديد عند خزانة الأمل، عندما كانت الأم تعجن الحناء في أيدي إناث البيت وتحزمها بقطعة قماش قديمة حتى لا يقع اللون من بين الاصابع فتختفي "الفرحة"، عندما كان البيت يعطر برائحة قهوة البن الذي لا يخرج إلا في مثل صباح العيد، وعندما كانت الحلوى تعني بكل بساطة بأنها حلوى. جاء العيد ومازال هناك انتظار لشيء ما يأتي بعد العيد، كان صبيان الحي يغمضون أعينهم على أحلامهم الكبيرة ويقولون للمستحيل فيها "بالعيد"، حينما كان العيد يعني أبيض القلب، وطيب القلب، ووفي القلب، وكبير القلب، وصادق القلب، جاء العيد ومازال هناك ينتظر خلف الباب لمن يسأله عن ماذا يعني أن يأتي وبيديه سلة فارغة؟ ماذا يعني أن ينتظر ولا يدخل؟ جاء العيد وهو يريد منا عيدا، يريد منا نورا يشبه فيّ الأفق الذي نام يوما على خد الفتاة الصغيرة، حينما وضعوا بيدها "ريال العيد" فغفت من فرحتها بذلك العيد. جاء العيد.. ومازالنا نصر أنه ذات العيد، في ذات الوقت، في ذات الزمن، وفي ذات الذاكرة، في ذات الأمل، والعيد ليس هو العيد، العيد كبر قليلا، بل كبر كثيرا وهرمنا قبل أن يأتي العيد، لم نعد نفقه، ماذا يعني يوم العيد؟ وكيف نرتفع عن الأرض يوم العيد؟ كيف نفرح؟ كيف نفتح الباب الكبير؟ كيف نقول للعيد أهلا يا عيد وكيف نقول لما بعد العيد مرحبا بالأيام التي تغيرنا بها. د. العجمي: اختفى العيد من غير رجعة ولم يتبق منه إلا رقم في التقويم جاء العيد، ومازلنا نسأل، هل هذا هو العيد؟ أم أننا نحن ما عدنا نحن، ونحن والعيد ضعنا في منتصف الزمن ذاك القديم، الترف الذي أذهب العيد يقول محمد العثيم - الكاتب المسرحي - العيد هو ذلك الفاصل الزماني فكما في الكتاب فواصل حتى نرى ما قبل الكلمة التي بعدها ونستطيع العودة إلى الكلمة التي قبلها فكذلك العيد هو ذلك الفاصل الزمني، وربما ذلك ما يبعد بنا عن فكرة أن الجديد للعيد وبأننا نغير ثيابنا القديمة بأخرى جديدة لنعيش العيد أو لنستقبله، ففي الماضي لم يكن لدى الإنسان مجال أن يعيش ذلك الترف الذي يمكنه أن يغير ثيابه التي يرتديها متى ما شاء، أو حتى ينوع في طعامه، فيبقى على ثوبه الواحد طوال العام وحينما يأتي العيد فإنه يغير من ثوبه بثوب آخر جديد من خلال صدقة الفطر ومن هنا جاءت فكرة الجديد للعيد. البلوي: الأطفال وكبار السن الوجه الحقيقي للعيد لأنهم هم فقط «الحقيقيون» إن العيد يعني، أن نتغير، ولكن المشكلة أننا لا نتغير في كل عيد! فلا نفكر كثيرا في أنفسنا، ولا نتأمل ولا ندع مجالا لنا حتى يكون العيد فرصة التغير التي يجب أن تحدث للإنسان كلما أتى، إذا العيد فاصل حياتي كلما مر بنا في حقيقته ولكنه للأسف ليس كذلك لدينا فهو عيد الثياب الجديدة فقط، وهؤلاء الناس الذين من حولنا على اختلاف أجناسهم لا نعطي أنفسنا في العيد للنظر إليهم بشكل مختلف، أننا لا نصغي لأنفسنا وليست هناك محاولة لنصفي ذواتنا نحوهم فنتعايش معهم كما يجب. في السابق كان شهر رمضان شهر التعايش الكبير، انه ذلك الشهر الروحاني الذي تتلمس روحانيته في الشوارع ومن خلال وجوه العابرين، من خلال تعاملات الناس بعضهم مع بعض، كان الناس يخرجون من الصباح للعمل، كان رمضان فاعلا ليس كما الآن، الذي تحول فيه إلى موسم تجاري، فالمسلسلات تروج للتجارة، والاسواق تمتلئ بالناس، ورمضان لم يعد شهر الروحانية، فقبل 60 سنة كانت المدينة في رمضان تغرق بمشاعر مختلفة من الايمان والروحانية العالية، ففي الليل كان الناس يستمتعون بالطعام المحدود لأن الجوع كان شديدا في تلك الفترة، فالإفطار يعني كثيرا لأن الطعام قليل، أما الآن فأصبحنا في رمضان ننتظر الطعام في النهار للفطور وننتظره في الليل للسحور فأصبح رمضان للأكل فقط. من الصعب جدا أن نعيد فاصل العيد؛ لأننا أفسدنا العيد، وأفسدنا رمضان، ولم يعد لدينا ما نفعله سوى أن ننتظر دائما الطعام. وقال الدكتور فالح العجمي - أستاذ اللغويات بجامعة الملك سعود والكاتب - لطالما تغنى الناس في الشرق بالمناسبات الاجتماعية والدينية منها على وجه الخصوص، أكثر من المناسبات الشخصية أو العائلية، حتى إن مواعيد كثير من الشرقيين في مراحل إنجاز أعمالهم، أو التحولات في أي قضية يتابعونها ترتبط بتلك المناسبات الجمعية؛ فيحدد الناس مواعيد الأفراح الخاصة أو بداية سفر أو مرحلة بناء منزل أو تأثيثه بتلك الفواصل، كأن يقول: نسافر بعد العيد، أو نبدأ في كذا قبل عيد الأضحى، إلخ، لكن ماذا تعني هذه الأعياد للناس قديماً وحديثاً؟ أو هل تغيرت العلاقة بين أناسنا وتلك المناسبات؟ في الواقع أنه مع بالغ الأسى، لم يعد العيد يعني كثيراً لأغلب الطبقتين الوسطى والعليا، وسكان المدن على وجه الخصوص، فعند عدد كبير منهم أصبحت المناسبة مفرغة من أي إسهام جمعي؛ وصار الهمّ الرئيس للشباب ومتوسطي الأعمار إرضاء كبار العائلة بالزيارة، والاشتراك في وجبة طعام مشتركة، والمهاتفة المبكرة للمباركة بالعيد، ثم ممارسة التهنئة مع أكبر عدد من الأصدقاء والأصحاب والزملاء بالهاتف، أو بالرسائل قبلاً، ثم ببرامج التواصل في وقت لاحق. ويضف الدكتور العجمي: الخلاصة أن العيد، الذي كان يفرح به الصغار، وينتظرون عيدياتهم فيه، وملابسهم الجديدة، وتتجسد فيه العلاقات بين الأقارب والجيران على أحسن ما يرام؛ من خلال الزيارات إلى المدن التي يسكن فيها أغلب كبار العائلة، ويشترك الجيران في موائد الطعام، ويسلم كل أحد على الآخرين مباشرة، وليس بالتواصل الآلي، قد اختفى إلى غير رجعة، ما تبقى الآن هو رقم في تقويم الأشهر الهجرية، وإجازة ينتظرها الموظفون، ليتخلصوا من العمل مؤقتاً، والطلاب ليحصلوا على راحة من المدرسة أو الجامعة، وربما يفكر كثير من الناس حالياً في استغلالها للسفر الخارجي، أو إنجاز بعض الأعمال غير المتعلقة بالفرح وتجديد الحياة. رتابة الفرح ويرى سعود البلوي - الكاتب الصحفي - أن العيد، بعيدا عن أبعاده وقدسيته الدينية، هو حالة من حالات الفرح الاجتماعي التي يفترض أن تعم فيها السعادة بين الناس، ويعد العيد حالة فرح حقيقية متى ما توافرت الخيارات والفرص لصناعاته، فالعيد ليس لونا محايدا للفرح، إنما هو لون الفرح بذاته، ويمكن لكل إنسان أن يلون حالة فرحه باللون الذي يريد، فأقصى درجات البهجة يمكن أن تتحقق بأقل التكاليف، كما هو الحال في بقية المناسبات الإنسانية المبهجة. إن الذي تغير ليس العيد، فالزمن كما هو دقائقه وساعاته وأيامه وسنواته إنما الذي تغير هم الناس، بعجزهم عن مواجهة متطلبات الحياة المعاصرة في صناعة لحظات الفرح والبهجة المؤدية للسعادة، ولهذا أجمل ما في العيد في مجتمعنا هي لحظات فرح الأطفال، بانتظارهم وحرصهم على كامل أناقتهم بالملابس الجديدة والحلوى و"العيدية" فهم الذين يضيفون للعيد بهجته، لأنهم "حقيقيون" وبالتالي هم يمثلون الوجه الحقيقي له. أيضا كبار السن في مجتمعنا هم وجه مشرق لهذه البهجة والابتسامات تعلو وجوههم، وهم يرون الأبناء والأحفاد مجتمعين بحالة مميزة لا تتكرر سوى مرتين في العام الواحد وبالتالي يمكننا أن نتعود على صناعة البهجة بإمكانات صغيرة شرط أن تكون المناسبة حقيقية. ولا يمكن إغفال أن العيد فرصة جيدة للتواصل بين الناس، ولا سيما أن أهالي بعض المناطق مازالوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم التي يملؤها الترابط وهذا أثر جيد، غير أن ما يحدث في غالبية المناسبات الاجتماعية - والعيد إحداها - هو الدخول في دهاليز الرتابة والمجاملات من دون وجود حالة فرح حقيقية، ما يرسخ الرتابة لينتهي يوم العيد مبكرا، لذا فالواجب هو أن نبحث في أنفسنا لصنع بهجة العيد، على الرغم من أن جهود مؤسسات المجتمع المدني في الأعياد والمناسبات يفترض أن تكون ملموسة بملامستها مشاعر الناس وحاجاتهم، وهذا ما نحتاج إليه لخلق فرص متعددة للبهجة والفرح في العيد. د. فالح العجمي سعود البلوي