كانت الهمة عالية حينها، والتوق إلى العبادة والتعلم والتعرف على الناس، وروح الشباب المتقدة، هو ما يدفعني إلى السفر والتنقل، ملتمساً شيئاً من معرفة، أزيل بها غبار الجهل. مسجد الإمام علي بن أبي طالب في القديح، ومسجد الإمام الحسين في الدمام، كما مسجد الإمام الصادق في الكويت، جميعاً دور عبادة طالتها يد التطرف العمياء، يد اغتالت بشراً أبرياء، وفي ذات الوقت سرقت مني جزءاً من ذاكرتي. فالمساجد الثلاثة سالفة الذكر، جميعاً صليت بها، وبعضها قضيت فيه أوقاتاً طويلة وسط نقاشات فكرية ذات طابع ديني تحديثي. هل هو ضرب من الكوميديا السوداء، أن تلاحق "داعش" خطواتي في الأماكن التي مررت بها، وأن تسرق شيئاً من ذاكرة كوّنت ذاتي، وراكمت معرفتي، وصنعت جزءاً من تجربتي. في مسجد الإمام علي بقرية القديح، شرق السعودية. كنت أذهب مع نفر من الشباب لحضور درس تفسير القرآن الكريم، بعيد صلاة المغرب، والذي كان يقدمه الشيخ عباس العنكي. وهو رجل الدين القادم من الحوزة العلمية، والذي كنا نسمع عن علمه الكثير، خصوصاً وأن أحد رجال الدين الكلاسيكيين الكبار في القطيف، وهو الشيخ حسين العمران، كان يثني على تحصيله العلمي. ذهبنا إلى المسجد الذي يصلي فيه العنكي، والذي يعتبر امتداداً لفكر رجال الدين الكلاسيكيين، الذين يؤثرون الابتعاد عن السياسة، ويفضل التركيز على الفقه والعقائد وباقي المعارف الدينية. درس تفسير القرآن الكريم، الذي كنا نحضره في مسجد القديح، كان مختلفاً حينها. وكان يسعى فيه الشيخ إلى تقديم شيء مغاير، يبين فيه الآيات القرآنية بطريقة تاريخية واجتماعية، أقرب إلى التفسير الموضوعي، منها إلى الطريقة الكلاسيكية التي كانت متبعة. مقارباً في ذات الوقت الدلالات الاجتماعية والثقافية للألفاظ، واختلاف الشرائع بين حقبة وأخرى، داعماً ذلك بالبراهين العقلية من جهة، أو النقولات النبوية والسيرة. نقاشات كثيرة كانت تدور بيننا كشباب بُعيد الدرس، وكانت تمتد أحياناً في زيارات كنا نقوم بها إلى منزل الشيخ. ولازلت أذكر هنا، التحفظ الذي كنت أبديه على بعض التفسيرات التي كان يقدمها الشيخ الشاب، وهو التحفظ الذي قد يكون مرده نزعة استقلال فكري لديّ، أو ما لحظته حينها من ثغرات في المنهج. وتلك ملاحظات من زمن مضى!. في الدمام، كان إمام مسجد الحسين، السيد علي السيد ناصر، وهو رجل الدين، والوجيه، والحكم الذي يأتي له الناس يحتكمون إليه، ويأخذون منه المشورة والرأي. وهو أيضاً محل ثقة والدتي العزيزة، والتي لا تزال حتى اليوم تتصل به وتأخذ منه الرأي الشرعي، مفضلة إياه على الكثير ممن هم سواه. الناصر، كان أيضاً صديقاً مقرباً جداً من خالي الراحل السيد حسين العوامي، والذي كان دائم الحضور للصلاة في المسجد، في الفرائض الخمس، طوال فترة وجوده في الدمام. كلا المسجدين استهدفهما الإرهاب، ومعهم مسجد الصادق في الكويت، والذي لا أنسى دهشتي في أول مرة دخلت فيها إليه، وكيف شدني ترتيبه ونظافته واتساعه، وأنه يحتوي على مصعد آلي. في الوقت الذي كانت فيه كثير من المساجد في المنطقة متواضعة من ناحية البنيان والتأثيث!. في كل مسجد هنالك مئات إن لم نقل آلاف الحكايات التي تروى. وهي جزء من الحكايا سردتها سريعة مقتضبة، بعد أن حاول التكفيريون طمسها، بجهلهم وكراهيتهم. القصص لا تموت، وفيها من العبر الكثير، ولذا: لا تصمتوا، ولا تدعوا الجهلة ينسجون عنكم قصصاً كاذبة. انقلوا إلى الناس قصص السلام والحب التي عشتوها، فعلها تساهم في بزوغ شمس عقل جديد.