الشاعر العراقي المخضرم صاحب الأعمال الشعرية المتميزة، (هاشم شفيق) الذي ظل طوال حياته الشعرية التي مسته وتشبثت به من الصغر يجرب ولما يزل في حالة تجريب تلقي بأثرها على كل عمل من أعماله الشعري العديدة التي يكمل بعضها بعضاً حتى لو بدا متنافراً فإنه في داخله يندرج في كينونته البنائية التي تأتت من المساحة الواسعة التي هيأتها الظروف الحياتية وحبه للشعر الذي نذر نفسه له لا إيرادياً، حيث يقوده الشعر فيسير معه أنى توجه به، ويعطيه كل المتطلبات التي يمليها عليه، فبهذا لحق بركب من سبقوه وسبقهم مما أدى بهم الانبهار بما يقدم، فبدلاً من أن ينقاد لهم تبعوه في دخانيب وأزقة وشوارع ومسحات الشعر التي سلكها، ليس منظراً ولكن مبدعاً ألقى بظلاله على ميدان الشعر العربي ليحرك الراكد، ويفتح الأبواب والنوافذ لشمس التنوع الفني والتكنيكي في كتابة الشعر، وقد شده الزمن الجميل الذي كان يمثل بداياته ومن ثم ارتقاء منارة الشعر درجات درجات، فأصدر كتابه كسيرة ذاتية، أو شعرية، وربما كذلك فكرية، عاد ليكتب عن (بغداد السبعينات) سيرة أدبية، وقد غرف من مخزون ذاته من الذكريات التي كانت من معايشته لها هي المعين، يتحسر وهو يصف كيف كانت وكيف أصبحت ثقافياً، واجتماعياً، وسياسياً، وقد ركز على حالة الإفراغ والتفريغ التي تعرضت لها بغداد الثقافة من مثقفيها الذين تحولوا إلى المنافي القسرية، والإختيارية لأنها لم تعد (بغدادهم التي عهدوها في ذلك الزمن). فكانت حياتهم في أماكن أخرى، وبالرغم من الأمكنة الأخرى التي كان حزب البعث قد تسبب فيها بتهجير الكثيرين من الشعراء والفنانين والمبدعين الحقيقيين الذين لم يساوموا على حرية الأعمال الفنية التي يحيون بها ولها حتى طارت شهرة بعضهم إلى أرجاء المعمورة، فبالرغم من التهجير عاد الشاعر شفيق إلى مراتع الصبا وبدايات الطريق، ولكن الأسف فغر فاه وابتلعه لأنه لم يجد (بغداده) فعاد يصف بعفوية تتكئ على ذاكرة صافية غير عكرة بعضاً من صور بغداد السبعينات، فهو يقول عنها:"لكل مدينة ذاكرة هي بمثابة الدعامة التي تستند عليها أية مدينة في العالم، فالمدن الفاقدة الذاكرة، هي ليست سوى خرائب أو مجر خرائط ولم تبْن بعد وتخرج من بين يدي معماري ومهندس، فالمدينة الناجزة هي ذاكرة مفتوحة على تواريخ وأزمنة وأهداف وفصول حياة أترعت ذات يوم بشخصيات وخطوب وحوادث". كانت المقاهي في بغداد مثلها مثل المقاهي في العالم حسب التراتب والمستويات لأن لها مكانة في حياة الناس ترفيهاً وتسلية، وحوارات ونقاشات وقضاء وقت ما بعد عناء العمل، واجتماع أهل العمل أو الفن الواحد يتبادلون الآراء والأحاديث، فعالم المقاهي في رأي هاشم شفيق:"عالم خاص له تقاليده وطبائعه في العراق، فنكهة الشاي فيه تختلف من مقهى إلى مقهى آخر، وكل مقهى يتفنن في تحضير الشاي، وفي وضع السّر في النكهة والطعم وطريقة إعداده، فثمة الفحم والجمر الوردي المائل إلى الماسي بسبب قشدة الرماد الناعمة الشبيهة بالبودرة الرقيقة عليه ، والأباريق الخزف ذات الجمال الصيني، عدا عن السماورات الداغستانية والكازاخستانية، والسمرقندية، فضلاً عن الأقداح الشفافة الصغيرة التركية والعراقية، إنه عالم ملون من الحكايات والقصص والسرد الذي يمتاز به رواد المقهى، وهو مكان لتلاقي الأمزجة المختلفة والمتنوعة والغريبة مكان للبهجة المستدامة" ولا تخلو المقاهي من الرواد من جميع الأطياف ومختلف المستويات وكما الطيور على أشباهها تقع تكون المقاهي، وكل مقهى له رواده والمقهى الصغير يضم المثقف، والمهندس، والفنان، والثوري، ولابد من حضور رجل أمن متخف بشخصية فنان أو أديب يسجل في ذاكرته مايسمع ومايرى ليقوم بتقديم التقارير اللازمة لمسؤوليه في حزب البعث، وعلى هذه الطريقة تمت عملية التفريغ والإفراغ بالهجرة ،أو السجن، وربما التصفية حتى بهتت صورة المقاهي وتقلصت واضمحلت حتى المكتبات ودور السينماء والمسارح والمتاحف انكمشت وربما تلاشت أو شبه ذلك في الوقت الراهن حيث الزعازع وفقدان الأمان، وهجرة وتهجير الكثيرين الذين أصبح قدرهم مفارقة بغداد، والعراق بكليته، فالحياة غالية والإنسان خلق ليعيش، وحيث يذهب هاشم بذاكرته إلى الماضي "الآن حين أستعيد الوجوه الصديقة لتلك الفترة، تقع عيناي مباشرة على شاكر لعيبي حين يدخل المقهى متحفزاً باحثاً عن وجه يحادثه يفرك جبينه المتعرق وكتبه كالعادة بين يديه، ويدخل خليل الأسدي خزينا، ثم يدخل صاحب الشاهر بوجهه الفضولي وضحكته الآسرة، باحثاً عنا وديوان شعر قديم في يده، يتبعه زاهر الجيزاني ساهماً وقصيدته في جيبه، القصيدة التي يجري عليها عشرات التعديلات، ويجيء خزعل الماجدي مرحاً مع حزن خبيء، ويحضر كمال سبتي مع صوته المتبعثر، ويحل رعد عبدالقادر هادئاً بسنه الضاحك، ويتبعه سلام كاظم حاملاً طرافته معه، وسلام الواسطي يدخل حاملاً حقيبته الجلدية وضحكته العفوية، وأديب كمال الدين يدلف بخطواته الواثقة، وكاظم جهاد مختصراً المسافات والوقت بموهبته المبكرة، ومرشد الزبيدي، وعبداللطيف محمود، وعدنان العيسى، ورعد مشتت بطلته الوديعة وكراسه وقصائده، وعبدالله ضحى بقصصه الجديدة، وعواد ناصر، وسعيد جبار، ونجم والي، وغيرهم "هناك أكثر من ذلك من المبدعين العراقيين الذي تركوا العراق ويعيشون في الشرق والغرب عيونهم على العراق، ولكن هيهات، فهم يؤكدون قسراً على أن الحياة هي في مكان آخر. ذكريات لها تاريخ تضمنها كتاب (بغداد السبعينات) فقد وفق هاشم أن يكتب عنها بروح الفنان تصويراً ورسماً، إنها لوحات مؤطرة بالحسرة والألم مع بصيص من الأمل.