كنت قد كتبت مقالا - قبل عامين - عن المستقبل المظلم الذي سنواجهه بسبب الانفجار السكاني الكبير، الذي نعايشه منذ عقدين أو أكثر. وكان الحديث في ذلك المقال مهموما بالحديث عن الأثر المدمر للانفجار السكاني على العملية النهضوية التي لا تزال في بداياتها الواعدة. لم يكن الطرح - آنذاك - يأخذ على عاتقه فضح الخطاب المضاد لتلك الرؤية التي تقدمت بها، بل كانت القضية - بحد ذاتها - هدفا مباشرا؛ لأنها من أمهات القضايا النهضوية في بعدها الأممي. لم تكن القضية - كما هي الآن - مثالا على قضية أخرى، قضية أخطر من هذه القضية المهمة التي تتقاطع - إشكالا - مع قضايا النهضة والإنسان، بل كانت تمهيدا لفتح آفاق الوعي على المسكوت عنه في سلوكيات الأفراد، ذلك المسكوت عنه الذي ينفخ فيه المؤدلج التقليدي؛ بغية شرعنته؛ جراء فهم ساذج للنص وللواقع. وإذا كان من المشروع، بل من الواجب، البحث في الإشكال الاجتماعي، في كافة صوره وتمظهراته، فإن البحث فيما يمكن اعتباره المصدر الأعمق - أثرا - لمثل هذا الإشكال، أو - على نحو أدق - فيما يمكن اعتباره العائق الأول لكافة الحلول المطروحة، يبقى هو الهم الرئيس لكاتب هذا المقال. إنني على يقين راسخ، أن الانفجار السكاني الذي بدأ - على نحو واضح - منذ أكثر من عشرين سنة؛ ولا يزال، هو الكارثة الحقيقية التي سترجع بنا - بعد ربع قرن من الآن - إلى مربع التخلف والانحطاط (العالم ثالثي)؛ مالم يتم تدارك هذا الوضع الخطير، بقوانين مدنية صارمة وشاملة، تحد من هذا التناسل الفوضوي، الذي يتضخم بقدر ما تتضخم الأنانية الفردية العمياء. لن تستطيع المشاريع النهضوية العملاقة - مهما أخذت البعد المستقبلي في حسابها - أن تفي باحتياجات الجيل القادم (القنبلة) الذي يستحيل الوفاء بمتطلباته التنموية في مثل هذه الحال. كل مشروع - مهما تمدد في اتجاه الاستيعاب المستقبلي - لا يمكن أن يتجاوز الأعمار الافتراضية التي تحكمه؛ من حيث الصراع الطبيعي بين التكلفة من جهة، ومنطق الاستيعاب المعقول من جهة أخرى. أي لا يمكن - نهضويا - أن أرهن مليارات الدولارات، وأضعها في مشاريع لن نحتاج لها إلا بعد عقود، وإن كان احتياجا مؤكدا - في الوقت نفسه -؛ في ضوء هذا الانفجار السكاني، إن لم يكن التفجير المتعمد. في الماضي؛ كان كل مولود جديد، يشكل - بنفسه - بنية تحتية، بنية تمد المجتمع بالعطاء؛ لأن بنية المجتمع كانت قادرة على الاستيعاب، بل كانت فقيرة إليه غاية الافتقار. أما الآن، فلم يعد الإنسان هو إنسان الماضي، ولا مجاله الحيوي هو ذلك المجال. اختلفت احتياجات الإنسان وأولوياته وفهمه للحياة والأحياء. وهو اختلاف نوعي، يبتعد - كل يوم! - عن الماضي، بقدر ما يعانق آفاق المستقبل. وهنا؛ يأتي الإشكال المزمن لدينا، إذ يفكر الإنسان/المجتمع التقليدي في إشكاله الراهن، كما كان يفكر فيه الآباء والأجداد قبل عقود، بل وربما قبل قرون. لا يمكن للإنسان التقليدي أن يتصور أن ما كان في الماضي حلولا ناجعة، ومادة أولية لتجاوز الأوبئة والأمراض والعاهات والفقر، أصبح اليوم سببا رئيسا للفقر والبطالة والجريمة والتخلف الثقافي والتربوي. إن مشكلة التقليدي تكمن أنه يرى عالمه الراهن بعيون ماضوية؛ فيوقعه ذلك في عالم من التخبط والخبال. الأشد خطورة في مثل هذا التخبط والتيه النهضوي، أن الدين يتم اتخاذه أداة ذرائعية؛ لنشر الرؤى والقناعات، ذات البعد الإيديولوجي الضيق. إن الدين أكبر من ذلك، الدين حالة من التفكير الراقي المؤنسن، يهتم بالكيف، أكثر مما يهتم بالكم. إن الإسلام الذي كان يحث على الكثرة، هو الإسلام الذي رفض الغثاء، وعابه على مسلمي الضعف والوهن. صحيح أن اجتماع الكم والكيف في الحالة السكانية هو الغاية المثلى. لكن هذا أصبح - في ضوء طبيعة الحياة المعاصرة - من المستحيلات اليقينية. ومن هنا، فالأخذ من (الكم)؛ لضرورة (الكيف)، أصبح في هذا السياق النهضوي الراهن، ضرورة عامة، تبيح المحظورات، فكيف بما ليس بمحظور أصلا، بل كان استحبابا وندبا باتفاق؛ لأن الصحابة كانوا يعزلون إبان نزول القرآن، ولم ينهوا عن ذلك التحكم الاختياري في الكم. وقد يعجب من لا يخالط الأصولي المتزمت حين يعلم أن الحماس لهذه القضية التنموية بلغ حد التدليس الاستدلالي من حيث توجيه النص، كما بلغ درجة الغباء المخجل، في استدلاله بمعطيات الواقع الأممي. إن بعضا منهم جعل تحديد النسل؛ لأجل ظروف المعيشة، من باب قتل الأولاد خشية إملاق. بعضهم استشهد بالصين واليابان للدلالة على إيجابية الكثرة، مع أن القضية لم تكن قضية كثرة، بقدر ما كانت قضية (انفجار) سكاني، أي أن خط التصاعد السكاني لا يتناسب مع حجم القاعدة المنتجة، ومن ثم فهو تصاعد (انفجار) غير معقول، لا يتلاءم مع خط الصعود التنموي، وهو الخط المعروف بأنه - باستثناء الطفرات الاستثنائية! - يبقى في دائرة الحراك المعقول. إن هذا الانفجار الذي بدأنا - الآن - نعاني من إفرازاته الأولية، والتي لا زال وجهها الكارثي غائبا، لم تتم - لدينا - التوعية به، كخطر داهم مدمر، يطال الجميع في حاضرهم ومستقبلهم وفي نوعية حياتهم. لم تأخذ المناهج الدراسية، ولا الدوائر الصحية، ولا الإعلام الرسمي، المسؤول، مهمة التوعية بهذه الكارثة التي ستتفجر في مجتمعنا في يوم من أيام المستقبل القريب، بل كان الحال في المناهج الدراسية عكس ذلك؛ إذ صورت الدعوة إلى تحديد النسل في صورة المحرم الديني، ومن ثم لا مساس!. في مقرر الفقه للصف الثالث الثانوي ص 60، موضوع بعنوان: «منع الحمل وتنظيمه». ومجمل الموضوع هجوم - مشرعن - على الآليات الحديثة لتنظيم الحياة عن طريق تنظيم النسل. أي أن الموضوع دعوة صريحة - غير محسوبة، وإن كانت مقصودة - للتكاثر، ومنع كل ما يقف حائلا دون ذلك؛ إلا ما كان يحمل ضررا مترجحا، تحدده الحالة الصحية كما يقولون. ومن الغريب أنهم يكلون الأمر في هذا الضرر إلى الطب الحديث، مع أن الضرر الذي يعم المجتمع بالتكاثر، والذي يقرره علماء الاجتماع والاقتصاد والمستقبليات، أشد وأشمل وأدوم من الضرر الفردي الذي يطال المرأة الحامل، كحالة فردية. يقول كاتب المقرر المذكور ص 60: «اعتمد الدعاة إلى تحديد النسل ومنع الحمل على عدة دوافع وأسباب في دعايتهم لرأيهم وترويجهم له، وكلها أسباب مادية تخالف ما جاء في أصول الشريعة من كفالة الله جل وعلا لأرزاق الناس». من البداية، يُظهر هذا المقرر المنهجي أصحاب الهم النهضوي - الداعين إلى تحديد النسل - في صورة أصحاب الدعايات، وأن دعايتهم تخالف الشريعة، لا بل تخالف أصول الشريعة. وهذا أسلوب غوغاني في معالجة هذه القضية؛ لأنه يعمد إلى شرعنة رؤية خاصة مقابل رؤية أخرى، وإلى توظيف عبارات ضخمة صاخبة؛ لإرهاب الآراء الأخرى. إن الطالب الذي يقرأ أن الدعوة إلى تحديد النسل تخالف أصول الشريعة، سيتهم كل داع بهذه الدعوة، بأنه يعترض على أصل من أصول الشريعة، فضلا عن كونه - أي الطالب - سيكون أسير هذه الرؤية المتزمنة في حياته الخاصة، وهي كفيلة بتدمير حياته وحياة أسرته. إن هذه الجملة ليست حثا على (التوكل)، بل شرعنة ل(التواكل)، فالتوكل يكون بعد أن (يعقلها) الإنسان بمعطيات الواقع المادي، ولا يكون بازدراء هذا البعد المادي، كما هو منطق صاحب هذا المقال. ويظهر الإرهاب بالألفاظ الشرعية جليا في قول الكاتب ص 61: «إن دلالة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وكذلك الإجماع والقياس تقرر أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين». وطبعا، يؤمن كل مسلم بأن الله هو الرزاق، فينبغي عليه - كما يريد كاتب المنهج التربوي! - أن يتجاهل كل معطيات الواقع، وينجب دون حساب. إن هذا النص يقرن منع الحمل بالقتل!، مع أن القتل إلغاء لحياة وجدت، بينما منع الحمل منع لما لم يوجد. وربط هذا بهذا في الاستدلال، ليس إلا لقصد التهويل على الطالب الساذج. ويبقى الطالب ضحية هذا الحكم المتزمت، وضحية هذا المنطق الاستدلالي المضطرب، وهذا هو الأخطر؛ لأنه المشكل لوعيه الفكري، وهذا ما أكدنا عليه في المقال السابق. وبعد لأي، يريد هذا المنهج المتزمت أن يبدي نوعا من التسامح في هذه القضية فيقول ص 61: «أما تعاطي أسباب منع الحمل منعا مؤقتا في حالات فردية لضرر محقق.. فهذا جائز بشرط إذن زوجها، ودليله أن الصحابة كانوا يعزلون». وهذا الكلام مثال واضح على التزمت لا التسامح، وعلى الجهل بمنطق الاستدلال، إذ هو يجمع من الشروط للإباحة ما ليس بلازم فيها، حتى في مذهبه الخاص المتزمت. فهل في حال تحقق الضرر يحرم المنع الدائم، حتى يشترط - هنا - المنع (المؤقت)؟ ولا أريد أن أقول: هل المنع المؤقت يحتاج لضرر متحقق؟؛ لأن تزمتهم ربما يحكم بهذا. ولكن، في حال تحقق الضرر هل تحتاج المرأة (وهي التي ستتحمل العبء كاملا) لإذن زوجها في منع الحمل مؤقتا؟!. لا أدري كيف تتوالى الشروط العابثة؛ لتصل إلى هذه الإباحة المؤقتة، مع أن مجرد الضرر يلغي هذه الشروط من أساسها، كما يلغي كونها إباحة مؤقتة. والأعجب في كل هذا، أن النص (الحديث) الذي ورد كدليل على هذه الإباحة المؤقتة المشروطة هو دليل على الإباحة العامة؛ لأن الصحابة لم يصرحوا بأنهم كانوا يعزلون لضرر محقق، بل كانوا يعزلون فحسب، دون ذكر مبررات. هذا من حيث الاستدلال على السلفي بمنطقة. وظاهر هنا أن العبث بالشروط وتهويلها، والعبث بالاستدلال إنما هو جهل وتجهيل؛ ليتخرج الطالب بعد ذلك وهو مستعد لأن يذعن كامل الإذعان، لمجرد ذكر النصوص كأدلة، دون قراءة فاحصة لمنطق الاستدلال بها. هذا العبث يجني على عقل الطالب، قبل ان يجني على حياته عندما يقتنع بمثل هذه الأحكام والرؤى. ويتحدث المنهج بعد ذلك عن اضرار تحديد النسل ص 62. تأمل هنا انها اضرار تحديد وليس منع. ولكن المهزلة الحقيقية هي في الأضرار المذكورة؛ لأنه اذ لم تكن هناك اضرار حقيقية؛ فقد ادى بهم ذلك الى توهم اضرار لا علاقة لها - من حيث سياق الموضوع هنا - بالموضوع. وقد حرض المؤلف على ان تكون هذه الأضرار ذات بعد اجتماعي وصحي، وإن كانت بعيدة كل البعد عن القضية الأساس. فمن الأضرار - كما يقول المنهج - «انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، مما أدى الى توفر وسائل منع الحمل وتحديد النسل». أي غباء استدلالي هذا؟. هل موضوعنا هو الضرر الواقع على زوجين جراء تحديد النسل، أم على غير متزوجين؟. ثم إنه لو كان على غير متزوجين، فطريقة الاستدلال تبقى مقلوبة. ممكن أن يقال: إن هذه الوسائل ساعدت على انتشار الزنا. أفهم هذا منطقيا، لكن، ما علاقة هذه الوسائل المستخدمة بين متزوجين بانتشار الزنا؟ هل هو مجرد التنفير من تحديد النسل، ولو بالجهل والتجهيل والخلط بين الأسباب والنتائج والحالات المتباينة؟!. والغريب أن الضرر الثاني لديهم كان «الزنا سبب لنشر الأمراض الخبيثة كالإيدز، والزهري، والسيلان..». ما علاقة كل هذا بتحديد النسل؟!!. ومن الأسباب التي يذكرونها، وتدل على جهل بالواقع المتباين بين الدول، قولهم عن تحديد النسل إنه يؤدي إلى:« نقص الأيدي العاملة، وكثرة العجز والعجائز لقلة التناسل». وهذا الكلام يمكن أن يصدق على السويد او النرويج، لكن لا يمكن أن يصدق على بلاد تعاني من البطالة وتضخم فئة الشباب بما لا يتلاءم مع قوى الإنتاج. ومن اهم الأضرار التي ذكروها لتحديد النسل قولهم: «في ترك الزواج كبت للنفس وخروج بها عن فطرتها ومقتضى ما أودع الله فيه من الغرائز، ولذلك وغيره نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل». وهذا كلام صحيح من حيث المبدأ، ولكن، لا علاقة له بالأضرار التي هم بصدد ذكرها، إلا إذا كان القصد به تحديد النسل بترك الزواج، وهذا ليس من سياق الكلام في شيء، بل يدل على حشد غير مبرر لموضوع غير مبرر من الأصل. في ص 63، يذكر المنهج أن الأطباء وعلماء النفس قد ذكروا أضرار وسائل منع الحمل وتحديد النسل، وأنهم قاموا بدعوة مضادة؛ لتحذير الناس من هذه الوسائل، وأن الحكومات استجابت لهم، فحظرت الاتجار بهذه الوسائل، وأعطت المكافأة علِى كثرة النسل، وفرضت العقوبات على من ثبت عليه استعمال هذه الوسائل أو الاتجار بها أو الترويج لها والدعاية لاستعمالها. وهذا كلام عام، ونسبة عامة، وإلا، فلماذا لم يذكروا هذه الأضرار صراحة؟. أما المكافأة على كثرة النسل، فهل توجد في الدول ذات التضخم السكاني، كما هي دول العالم الثالث. إنها لا توجد إلا في الدول التي تعاني من التناقص (الشديد) في عدد المواليد، إلى درجة تهدد البنية العامة للمجتمع. أما الادعاء بأن الحكومات حظرت الاتجار بوسائل منع الحمل، وعاقبت من يستعملها، فلا أدري أين توجد هذه الحكومات؟، لماذا لم يذكروها؟، هل هي حكومة طالبان؟!، لماذا هذا الكذب الفاضح؟، هل هم يتكلمون عن المخدرات، أم عن وسائل منع الحمل التي تباع في كل مكان؟!. لا جواب!. لكن - وهذا هو المهم - إلى متى يستمر هذا التجهيل، تحت مظلة التربية التعليم؟. [email protected]