لم يكن الحوار الذي جرى حول المناهج التعليمية ترفاً فكرياً، ولن يكون. ومهما حاول التقليديون أن يصوروه على هذه الدرجة من الهامشية، فلن يستطيعوا إقناعنا بذلك، لأننا ندرك أن الحافز الذي يوجههم نحو هذا الاتجاه السلبي، ليس البحث عن الحقيقة والصالح العام، بل هو محاولة الاحتفاظ بالمكتسب الايديولوجي الذي حققوه عبر مراحل النضال الصحوي في أروقة التعليم. التعليم ليس مجرد علم أو ثقافة عامة فحسب، بل هو قبل هذا وذاك: مناهج، والمنهجية فيه - أي في التعليم - تعني أنه مبرمج - على نحو دقيق ومدروس - لصناعة مجتمع كلي، مجتمع تتضافر فيه قنوات التأثير التعليمية مغ غيرها؛ لتخرج به من حالة السلب والتقهقر، إلى حالة الايجاب، ليكون قادراً على الإنتاج والعيش بسلام. وهذا يعني أن كل مفردة منهجية قد حسب لها حسابها من حيث تأثيرها في المستوى العام الذي يراد تحقيقه، وليست مجرد رافد (دعوي) خارج السياق العام. البرنامج التعليمي له - او هكذا ينبغي - طابع الانساق العام. كما أن له طباعاً جماهيرياً شمولياً، من حيث كون الغالبية العظمى من أفراد المجتمع الواحد، يدلفون إلى الحياة العلمية والعملية من خلاله، وتتكون رؤاهم العامة - بمستواها الشعبي على الأقل - على أساس من خطوطه الثقافية العامة. ومن هنا، ندرك الخطورة الكامنة في الخلل المنهجي من ناحية، وخطورة المفردة المؤدلجة من ناحية أخرى. وعلى هذه الحال، يصبح النقد الذي يسلط الأضواء على المفردات المتفرقة، التي يتكون منها المنهج العام، لس هو كل شيء في العملية النقدية الإيجابية. فمثل هذا النقد للمفردات - على أهميته في سياقه - لا يسلط الأضواء على الروح العام التي ينتظم مناهجنا التعليمية، من حيث هي - في مناهجنا الشرعية والعربية خاصة - روح تقليدية، تشتبك - وبصراحة أحياناً - مع الوعي السلفي التقليدي. وبهذا، فالنقد المثمر، على المدى البعيد، هو النقد الذي يتماس - نقدياً - مع هذا الوعي، على نحو صريح. إن النقد الحقيقي، لابد أن يفكك البنية العامة للمناهج، تلك البنية التي تكونت بفعل الوعي الجماهيري المتلبس بالخرافي والعاطفي، بدل أن تقطع معه، وتؤسس - في الوقت نفسه - لوعي جديد مغاير. غير أن مثل هذا النقد التفكيكي، ولأسباب كثيرة، يحتاج لسياق آخر!. مما يعني أننا - في هذا السياق الخاص، المرتبط بالفاعل النقدي، وبالمجتمع موضوع الفعل - لابد أن نتمحور حول المفردة الواحدة والموضوع الواحد، كجزء من الخضوع - المؤقت - للشرط الاجتماعي الراهن. المرأة من ناحية، والحجاب من ناحية أخري، ثنائية متلازمة، برزت في هذا العصر الحديث، وتم تصعيدها - من حيث ثنائيتها -؛ لتكون ثنائية اسطورية أو شبه أسطورية؛ ترتبط بالمرأة المسلمة خاصة، دون بقية النساء. وبما أن الأسطورة تتكئ - في الغالب - على الترميز، والذي - بطبيعته - يختصر الأشياء، فقد تم اختصار المسألة النسوية للمرأة المسلمة بالحجاب؛ قبولاً ورفضاً، أي أنه اختصار مارسته جميع الأطياف، على تضادها في الرؤى العامة، وفي موقفها من الحجاب خاصة. وهذا قد أدى بالحجاب إلى أن يكون ترميزاً معتبراً على نطاق واسع، ليس العلماني بأقل خضوعاً له من الإسلاموي. في هذا السياق لن ندخل في جدلية الايديولوجيات حول هذا الموضوع، إذ هو جدل لا يعنينا في هذا السياق. فنحن متفقون - من حيث كوننا مؤمنين خاضعين للتشريع الإسلامي - على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة. لا خلاف بيننا - كمسلمين - حول هذه المفردة. لكن الخلاف الذي لا بد أن يكون ظاهراً وواضحاً تمام الوضوح، ولا يتم إخفاؤه؛ لأي سبب، إنما هو حول طبيعة الحجاب الواجب (كغطاء الوجه واليدين، وجوباً وجوازاً)، ثم المكانة التراتبية لهذا الواجب - في حال القول بوجوبه - من قضية المرأة ككل. بلا شك، هناك اتفاق على وجوب الحجاب. ولكن هناك خلاف طويل على وجوب تغطية الوجه واليدين، وهل هما من الحجاب أم لا؟ الخلاف في هذه المسألة طويل، وهو ليس من نتاج القضية النسوية المعاصرة. كي يسهل الاتهام. وليس من هدف هذا المقال الانتصار لرأي دون رأي؛ لأن المسألة خلافية، ولن ينتهي الخلاف حولها أبداً، ولو كتب فيها المجلدات الطوال. الرأي القائل بجواز كشف المرأة لوجهها، له أنصاره من القديم والحديث، وهم - أيضاً - كثر، وإن كانوا (أقل) من القائلين بالجواز. وهذا يدل على عبثية أية محاولة لأطر الناس على رأي واحد أو مذهب واحد، سواء تم ذلك التأطير عن طريق الضغط المادي، أو تم معنويا؛ بتجهيل القائلين بالجواز، أو تهميش آرائهم، أو حجب مؤلفاتهم!. فهذا كله لن يقلل - فضلاً عن أن يلغي - من شرعية الرأي المخالف في هذه المسألة. إذن، وبما أن المسألة خلافية، وواسعة في خلافيتها، وبما أن هذا الخلاف له بعده الإشكالي في المتعين الاجتماعي، فقد كان من الواجب - من الناحية الشرعية والمنهجية - أن لا يتم تفنيد أي من الرأيين في منهج دراسي، خاصة في منهج يراد منه أن يجعل الطالب قادراً على التعامل مع مجتمعه الكبير - وليس الصغير فحسب - بتسامح واعتدال. هذا هو الواجب. لكن ما حدث في مناهجنا الدراسية شيء آخر. ففي منهج (الحديث والثقافة الإسلامية) للصف الثاني الثانوي، ص91 يقول الكتاب عن المرأة: «أمر الإسلام بحجابها، بل تغطي جميع جسمها عن الرجال الأجانب عنها، لئلا تتسور إليها السهام الخفية فتخدش عفتها وطهرها» وهنا نلاحظ أن الحجاب الشرعي تم تفسيره بستر جميع البدن بلا استثناء، فهي فتوى جرت على رأي القائلين بوجوب ستر الوجه واليدين. وهذا احتكار لمسألة خلافية، ويجري ذلك في منهج عام، مع أنه يوجد في المجتمع طوائف كثيرة تأخذ بخلاف ما قرره مُعد هذا المنهج، هذا المنهج الذي تم تأليفه للجميع، أو هكذا يفترض!. ومع أن التعليل في هذه الجملة يحمل احتقاراً واضحاً للمرأة، إلا أنه يزداد سلبية عندما ندرك أنه ورد في سياق موضوع حيوي؛ عنوانه: «تكريم الإسلام للمرأة وخصورة الاختلاط» وكأن المرأة التي تكشف عن وجهها ويديها قد رفضت هذا التكريم، حتى وإن كانت ملتزمة بشعائر الإسلام. هذه الجملة العارضة، كأنما كانت مقدمة للموضوع المخصص للحجاب، والذي سيأتي بعد ذلك في منهج (الحديث والثقافة الإسلامية) للصف الثالث الثانوي من ص 46 إلى ص55، يقول كاتب المنهج في بداية الموضوع: «وإن مما لا شك فيه أن احتجاجها بتغطية وجهها ومواضع الفتنة منها لهو من أكبر احتشام تفعله وتتحلى به لما فيه من صونها وإبعادها عن الفتنة. ولنعلم جميعاً أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب». وبصرف النظر عن ركاكة الأسلوب؛ فهذا الإلحاح - منذ البداية - على ربط الحجاب الشرعي بتغطية الوجه؛ يدل على منهج متسق في فرض الرؤية الخاصة في مسألة خلافية واسعة، وأنه أمر طبيعي أن يرد في مناهجنا، إذ هو نابع من ثقافية اقصائية، هي من طبيعة معدي هذه المناهج. وهذا الإقصاء سيتضح في مسائل خلافية أخرى تخص المرأة في أكثر من موضوع. أما طبيعة الاستدلال، وطبيعة التعامل مع أدلة المخالفين، فتلك قضية تكاد أن تكون مأساة أخلاقية وعلمية. فالأدلة القرآنية خاصة، يتم استحضارها، ومن ثم تفسيرها تفسيراً موجهاً لخدمة الرؤية الخاصة. يقول الكاتب في شرحه للآية التي تأمر بضرب الخُمُر على الجيوب ص47: «فإذا كانت مأمورة بأن تضرب الخمار على جيبها، كانت مأمورة بستر وجهها، إما لأنه من لازم ذلك، أو بالقياس». وهنا نلاحظ كيف يتم تجيير الآية لصالح رأي واحد. ويقع الطالب الغر - بعد ذلك - فريسة هذا الاستدلال المُحتال. ويستدل الكاتب على وجوب تغطية الوجه، بالنهي عن الضرب بالأرجل، فيقول ص48: «فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفاً من افتتان الرجال بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه، فكيف بكشف الوجه». إنه يحاول في هذا الاستدلال - اللامتعقلن - أن يتعقلن!. لم يدرك هذا الكاتب، أن الوجه إنما هو موضع الكرامة الإنسانية، قبل أن يكون موضع الجمال وافتنة!. وإصدار المرأة للصوت المُوقع بالأرجل حركة (غير مؤدبة)، لها دلالة سلوكية عند السامع في الماضي، وربما في الحاضر إلى درجة ما. وهذا - على أقل تقدير - احتمال يسقط الاستدلال. ومن أدلة القياس التي يستدل بها الكاتب على وجوب تغطية الوجه «زوال الحياء عن المرأة: الذي هو من الإيمان ومن مقتضيات فطرتها، فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء، أشد حياء من العذراء في خدرها، وزوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها، وخروج عن الفطرة التي خلقت عليها». هكذا يقول الكاتب!. حقيقة لا أدري، هل الكاتب - في هذه الفقرة السابقة - يمارس التجهيل عن عمد؟!، أم أن هذا هو منتهى قدرته المعرفية. وكلا الأمرين كارثة، لا في هذه المسألة فحسب؛ من حيث إسهامها في تأزيم الواقع، بل هي كارثة تمس بنية الوعي العام للطلاب، من حيث التعود على التخبط اللامنهجي في الاستدلال، وهذا مكمن الخطورة؛ لأن الطالب يتلقى مثل هذا التخبط، دون أن يتساءل: هل الحياء الإيماني يخص المرأة دون الرجل؟! ولماذا يربط هذا الحياء بفطرة المرأة خاصة؟، ما هي هذه الفطرة؟!، ومن الذي حددها، وقرر أن المرأة خلقت عليها؟، وهل الأمثال الشعبية - وإن كانت قديمة وفصحى - يعوّل عليها في الاستدلال الشرعي؟... الخ. هل يمكن أن يطرح الطالب - المختطف وعيه بالتلقين - مثل هذه الأسئلة - على مثل هذا الاستدلال الغوغائي المتكئ على مسلمات شعبية أو خاصة؟ ويظهر التحامل على الرأي المخالف أشد ما يظهر في الرد على أدلته في جواز كشف الوجه. يقول الكاتب ص51: «ولا أعلم لمن أجاز كشف الوجه والكفين من الأجنبية دليلاً من الكتاب والسنة سوى ما يأتي»، ثم يذكر أربعة أدلة فقط. يقول على هذا النحو من الجزم؛ مع أن الإمام الألباني - رحمه الله - له مؤلف شهير في جواز كشف الوجه، أورد فيه هذه الأدلة وغيرها، وانتصر - بقوة - للرأي القائل بالجواز. لكن المصيبة ليست في هذا التجاهل لغير مجهول، بل ومشهور، وإنما هي في طريقة الرد على هذه الأدلة الأربعة. نعم، لم يورد الكاتب هذه الأدلة، ليبين للطالب أن هناك رأياً مخالفاً، يتسع له التشريع والتطبيق. فمثل هذا التعدد، لا يحتمله الوعي الاقصائي، وإنما أوردها للرد عليها فحسب. فتفسير ابن عباس - رضي الله عنه - ل (ما ظهر منها) بالوجه والكفين، جرى تسديد الاحتمالات إليه، ليسقط الاستدلال به. وهي احتمالات غريبة جداً، لا توافقها حالة ابن عباس (احتمال أن مراده أول الأمرين قبل نزول آية الحجاب) من حيث هو لم يدرك الأمر الأول، ولا سياق النص (أن مراده الزينة التي نهي عن إبدائها) لأنه كان يفسر (ما ظهر منا). ويكفي أن هذه الطريقة في التنفيذ، ما كانت لتكون، لو كانت موجهة إلى أدلة الوجوب التي ينتصر لها الكاتب. أما حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في شأن المرأة الخثعمية التي كانت تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وهي كاشفة عن وجهها، وأخوه الفضل ينظر إليها، فقد قال الكاتب فيه: «لا دليل فيه على جواز النظر إلى الأجنبية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقر الفضل على ذلك، بل حرف وجهه إلى الشق الآخر». وهذا تلبيس متعمد على الطالب، فليس الخلاف حول جواز النظر من عدمه، بل هو في جواز الكشف من عدمه، وبينهما فرق. وحال المرأة الخثعمية في سياق النص، أنها كانت كاشفة عن وجهها، وكانت جميلة أيضاً. وهذا (الكشف) هو محل النزاع، فالنبي- صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بستر الوجه، وإنما أمر الفضل بغض البصر (بصرف وجهه عنها) وغض البصر هو الواجب عليه إجماعاً. ويقول الكاتب - أيضاً - في التبرير لرؤاه، مجيباً على استدلال المخالفين بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بتغطية وجهها، بقوله: «الظاهر أنها كانت محرمة، والمشروع في حقها أن لا تغطي وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إليها من الأجانب». وكلنا نعرف أن القائلين بالوجوب (وجوب تغطية الوجه) يرون وجوب تغطيتها لوجهها في مثل هذه الحال التي كانت عليها الخثعمية؛ لوجود الفضل بن العباس ينظر إليها - حتى ولو كانت محرمة -؛ لأنه من الأجانب. فهم لا يسقطونه في حال الإحرام؛ إذا وجد الأجنبي، فما هذا التلاعب بالاستدلال؟!. وكل هذا يهون، مقارنة بالتعليل الأخير، إذ قال الكاتب المحترم ص54: «أو يقال: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بعد ذلك». هذا تعليل استطيع أن أقول بلا تردد: إنه تعليل مجنون؛ لأنه تعليل يجعل كل دليل شرعي مقروناً باحتمال ينقضه من أساسه. فلو صح هذا التعليل من حيث الاستدلال - ومحال أن يصح - لم يبق في الشريعة حكم واحد، لأننا سنجد بعد كل دليل، من يقول: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا بعد ذلك. لا أدري كيف اجترأ كاتب المنهج على كتابة هذه الجملة اللامسؤولة، وهل كان يعي أبعادها؟!، وأين المراجعون؟!. وليس المراد في هذا النقل، الانتصار لهذا الرأي أو ذاك - وإلا لطال الحوار مع هذه الأدلة ومع الأدلة الأخرى الواردة في الكتاب الإقصائي (حراسة الفضيلة)، وإنما المراد - هنا - التنبيه على خلل منهجي في عرض مسألة خلافية. كان يكفي في مثل هذه المسألة عرض الخلاف، وأدلة كل فريق، دون تفنيد هذا الرأي أو ذلك. والحجاب هنا مثال صارخ للموقف السلفي العام من كل ما يخص المرأة وقضاياها، حيث الركون إلى الرأي المتشدد، وإن لم يكن الأصوب. فمثلاً، يقول الكاتب في مقرر (الفقه للصف الأول الثانوي) بعد ذكره لتحريم سفر المرأة دون محرم، ص68: «ولا يتغير هذا الحكم بتغير وسائل النقل التي يستخدمها المسافر سواء في ذلك السفر على الدواب أو على السيارات أو الطائرات أو السفن أو نحوها «وكلنا نعرف أن هناك من علمائنا، بل ومن السلفيين منهم، من يرى تغير الحكم بتغير الوسائل، وذلك فيما يعرف لديهم ب (الرفقة الآمنة). إذن، فلماذا هذا الانحياز إلى رأي واحد؟. لماذا لا يذكر الخلاف - المهم عملياً - هنا؟!. ويقول الكاتب في مقرر (الحديث والثقافة الإسلامية للصف الثاني الثانوي) ص91: «مكان المرأة بيتها، وهو وظيفتها، وميدان عملها، ومحل مسؤوليتها، به تحفظ بصرها وتربي أطفالها، وتقوم بشؤون زوجها». إن هذه الفقرة دالة على موقف متحيز ضد عمل المرأة ومشاركتها الاجتماعية الفاعلة، ولا ينفي هذا التحيز، الاستثناء الوارد في آخر الصفحة، والذي ذكر فيه ميادين العمل المقترحة للمرأة، فما ذكره من ميادين، يعزز التوجه السلبي أكثر مما ينفيه. ويبقى أن المسألة أكبر -- بكثير - من مثل هذه المفردات، على كثرتها وسلبيتها التي لا تخفى.