لم تعد ظروف الحياة الاجتماعية حاليا كما كانت قديما، حينما كانت الأمهات يرددن مقولة: «كل طفل يجيء رزقه معه»، حيث كانت الحياة بسيطة لم تكن فيها شكاوى من نقص المتطلبات الضرورية، أو هموم تربية الأبناء .. كان الزوجان لا يتفقان مسبقا على عدد الأولاد المقرر إنجابهم حيث كانوا يعتقدون أن تنظيم الإنجاب من الأمور الدخيلة والمستوردة إلى مجتمعاتنا العربية والخليجية تحديدا. أما واقع اليوم فقد تغير تماما في ظل زيادة الكثافة السكانية وتزايد الشكاوى المرتبطة بالتمدن والتنمية والتوسع العمراني، فباتت الأسر تلجأ إلى «تنظيم النسل» لمواجهة مصاعب الحياة والظروف المعيشية الصعبة، فيما ترى بعض الأسر أن تواصل الإنجاب أمر مهم لزيادة النسل طالما أن حالتهم المادية ميسورة وأن كل متطلبات الجيل متوفرة لديهم. وكان مؤتمر تنظيم الأسرة والنسل الذي نظمه قسم النساء والولادة في مستشفى الملك عبد العزيز ومركز الأورام أخيرا قد أوصى بتدريب الأطباء والقابلات على استخدام وسائل تنظيم الأسرة المختلفة والتعرف على فوائدها واختيار الوسيلة الأنسب الآمنة لكل سيدة، وأنه من حق الزوجين اختيار الوسيلة المفضلة لهما بعد الشرح الوافي والمعلومة الكافية، كما أوصى على إدراج وسائل تنظيم الأسرة في وزارة الصحة وتوفيرها في المستشفيات الحكومية والمراكز الصحية بالمجان من أجل استفادة جميع فئات المجتمع من وسائل تنظيم الأسرة، وإدراج برنامج تثقيفي لتنظيم الأسرة في عيادة فحص قبل الزواج، إلى جانب زيادة الوعي بأهمية تنظيم الأسرة والتشجيع على ممارسة وسائل تنظيم الأسرة بين أفراد المجتمع ورفع مستوى الوعي لدى النساء في الممارسات الصحية السليمة لأنفسهن وأطفالهن وتشجيع التخطيط للحمل والولادة للحد من تعرض النساء للمخاطر الصحية الناجمة عن الإجهاض والولادة. ويظل هناك سؤال ملح: هل نحن بحاجة إلى «تنظيم الأسرة» ؟ لمواكبة التنمية وتمكين الجيل الحالي من تحمل مسؤوليات الحياة. «عكاظ» وضعت هذا التساؤل على طاولة المتخصصين من الأطباء والأكاديميين. التمدن والتنمية في البداية يرى استشاري النساء والتوليد الدكتور محمد يحيى قطان أن تنظيم النسل، وليس تحديده من الأمور التي تنعكس إيجابيا على الأسر وعلى التنمية في ظل اختلاف ظروف الحياة عن الماضي، ورغم أن الكثافة السكانية في الخليج لا تشكل عبئا كبيرا إلا أن تنظيم النسل يظل مطلبا جوهريا لمواجهة التحديات التي يفرضها التمدن والتنمية، حيث يلاحظ أن الكثير من الدول النامية ومنها الهند والصين أصبحت الآن تواجه مشكلات الكثافة السكانية، وبدأت للأسف تشجع وبطريقة عشوائية تحديد النسل وغير ذلك من الوسائل التي تحد من زيادة عدد السكان. وأضاف: إن قرار تنظيم النسل في الوقت الحالي يتوقف على الزوجين، لأنه يحمي السيدات من مشكلات الإنجاب المتواصل بشكل سنوي، كما يساعد الأزواج على حسن رعاية الأبناء وتعليمهم على أفضل شكل، مع ملاحظة أن وسائل تنظيم الحمل عديدة ومتفق عليها شرعا طالما أنها لا تؤثر على صحة الإنسان، ومن هذا المنطلق فإنني مع قرار تنظيم الحمل وليس تحديده لأن الإنجاب المتباعد يساعد الزوجين على القيام بمسؤولياتهم الاجتماعية نحو الأبناء على أكمل وجه. تقنين الإنجاب ويتفق استشاري النساء والتوليد والعقم الدكتور عبد الرحمن فياض مع رأي الدكتور قطان قائلا: هناك مجتمعات نامية تنادي بتحديد النسل وهذا الأمر مخالف للشريعة طالما أنه لا يوجد أية مبررات صحية أو مخاطر تدعو الزوجين إلى اتخاذ هذا القرار، أما قرار تنظيم النسل فهو قرار يقنن الإنجاب ويساعد الزوجين على القيام بواجباتهم ومسؤولياتهم على الوجه الأكمل. إن بعض الدول النامية وجدت نفسها في مأزق عندما ازداد فقرها وعدد سكانها، فبدأت تدعو إلى تحديد النسل والإجهاض لأنها لم تعد قادرة على مواجهة الجيل الجديد من المواليد، إن منظمة الصحة العالمية قدمت تعريفا لمفهوم تنظيم الأسرة أشارت فيه إلى ضرورة تنظيم الفترات الفاصلة بين حمل وآخر، حفاظا على صحة الأمهات، فالولادات المتكررة أصبحت تهدد صحة السيدات كما يترتب على ذلك انعكاسات اجتماعية عديدة. ويؤكد د.فياض أن جميع وسائل تنظيم الحمل متوفرة، لكن يجب استخدامها تحت إشراف طبي وخاصة حبوب منع الحمل التي تعتبر من أكثر وسائل تنظيم الحمل استخداما في المملكة، حيث إنها تقدم وسيلة آمنة لتنظيم النسل يمكن الاعتماد عليها من دون أعراض جانبية، فهي لا تسبب أي خلل في دورة الحيض. الدخل المحدود واعتبر أستاذ علم الاجتماع التربوي في جامعة أم القرى البروفيسور محمود كسناوي أن تنظيم النسل من الأمور الهامة في حياة الزوجين، حيث إن اتخاذ هذه الخطوة يساعد على تربية الأولاد وتعليمهم ومواجهة ظروف الحياة بالشكل المطلوب، فالإنجاب المتواصل دون تنظيم قد يزيد من أعباء الأسرة خاصة إذا كان ربها من ذوي الدخل المحدود، وكم هي النماذج في مجتمعنا التي أصبحت الآن تواجه إشكاليات تربية الأبناء. لاسيما أن عدم وجود فوارق عمرية بين الأبناء وغياب الرقابة الأسرية يساعد على انحراف الأبناء أو فشلهم في الدراسة. وقال إن الظروف الاجتماعية الآن لم تعد كما كانت عليه في أيام أجدادنا أو آبائنا، حيث أصبحت الحاجة ماسة للنظر في الكثير من الأمور الحياتية خاصة ما يتعلق بتنظيم الحمل، مع التأكيد أن الإنجاب المتباعد يقي السيدات من المشكلات المرضية، كما يمكن الزوجين من القيام بمسؤولياتهما على أكمل وجه. التكاليف المعيشية ويرى استشاري طب الأسرة والمجتمع في الرعاية الصحية في صحة جدة الدكتور خالد عبيد باواكد أن تنظيم النسل أصبح من الأمور الأساسية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، فالواقع الاجتماعي في الوقت الحاضر اختلف تماما عن الماضي حيث كانت كل الظروف في الماضي مهيأة لإنجاب مواليد وتربيتهم وتعليمهم دون متاعب، أما حاليا فإن الأحوال قد تغيرت والأعباء ازدادت وارتفعت وهو ما يدعو إلى التقنين في الإنجاب من خلال اتفاق الزوجين على أن ينتظرا سنتين أو إلى ما شاء الله، مستشهدا بقوله تعالى: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة»، حيث إن فيه راحة للمرأة، وتستطيع العناية بطفلها وتربيته التربية السليمة خلال العامين، إضافة إلى الاستقرار النفسي لكلا الزوجين. مقاصد الزواج ويؤكد مجلس مجمع الفقه الإسلامي بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، أنه لا يجوز تنظيم النسل لإهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به، باعتبار حفظ النسل أحد الكليات التي جاءت الشرائع برعايتها لذا قرر ما يلي : أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا، بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. تحديد النسل أما خبير التخطيط التنموي الدكتور فهد أحمد عرب فيرى أن تنامي تعداد السكان مع ضعف أداء ومخرجات المشاريع التنموية وزيادة نسبة الفئة العمرية من الشباب تتطلب مناقشة تحديد النسل في مجتمعنا. وأضاف: «إن الحكم على الأمور لمجرد النظر إليها أو طرحها بدون التمهيد لها قد يقودنا إلى إصدار قرارات قد نندم عليها بل ويصعب التدخل في إصلاحها فيما بعد. وما أكثر هذه المواضيع التي جعلت بعض المسؤولين ينجرفون وراء ميل معين ولم يسخروا لها الوقت والمصادر العلمية والمختصين لدراستها فيكون القرار خطأ مبنيا على خطأ». إن كل قضية تشغل بال المجتمع لابد لها من حلول، لكن هل نحن نبحث عن الحلول بعد الاطلاع والقراءة والاستشارة والمداولة ووضع المقترحات أمام رغبات المجتمع؟ ومن ثم استشفاف رأي الخبراء وعمل بعض التطبيقات التجريبية أم نقتصر على ما نستسيغه ويوافق رأي شرائح معينة وبالتالي نصدر القرارات ونصيغ السياسات والإجراءات بناء على ذلك؟. إن مشكلة «التفكير في تحديد النسل» لو فتحت للحوار لوجدنا أنها ترتكز على عدة محاور أهمها: «1» الرأي الديني/ الشرعي، «2» الناحية الاقتصادية، «3» الشأن الاجتماعي، «4» التعليم والخلفية الثقافية، «5» الرأي العلمي المرتكز على الأبحاث، نظريا وعمليا. قفص التساؤلات إن جل ما يجب أن نضعه في قفص التساؤلات هي أسئلة لابد أن نعي الهدف من طرحها قبل التفكير في الإجابة عليها فهي : هل هذا الطرح الآن تمهيد لأن يكون واقعا بعد خمس سنوات مثلا؟ إذا لم نع أن هناك مشكلة معلوماتية في الجمع والتحليل، فهل ستكون خططنا التنموية جيدة، ولجوؤنا لأي قرار سيكون سليما؟. إذا ظهرت في المجتمع شكاوى من سوء تصرف أفراد أو انعدام أخلاقيات وكان حال كثير من الأسر مزريا أخلاقيا واقتصاديا فلا يعني اللجوء لتحديد النسل! إذا كانت المشاريع لا تغطي كافة السكان حاليا فلا يعني ذلك أن الموارد لا تغطي القائم عددا واحتياجا وبالتالي نلجأ لتحديد النسل! إذا كانت الوظائف تبدو شحيحة لا تكفي لأن يعمل كافة أفراد الشعب فلا يعني ذلك أن هناك ضرورة لتحديد النسل! لو أن الدخل تجمد عند مستويات معينة وتزايدت أعداد السكان أضعافا مضاعفة فلا يعني هذا لابد من تحديد النسل. إذا كانت المدارس مكتظة فصولها بأعداد الطلاب ولم يعد هناك إمكانية في تسجيل الأطفال في مدارس خاصة فلا يعني ذلك تحديد النسل. إذا كانت البنات تبدو أكثر من الأولاد في كل مكان عام فلا يعني خلق التوازن أن نحدد النسل. هل إذا كانت نسبة الوفيات من الأطفال عالية نبدأ في الدعوة لتحديد النسل؟ هل الأخبار السيئة عن سوء أحوال الخدمات وتقصير مقدميها سبب في التفكير في تحديد النسل؟ هل من مسببات زواج القصر كثرة البنات وبالتالي لابد من تحديد النسل؟ إن مثل هذه الدعوات الآن لهي إلهاء عن النظر إلى بؤرة المشكلة وجعل المجتمع يفكر بوضوح رؤى وفكر متزن أين هو الآن، وماذا يريد في مستقبله لصالح الإسلام والمسلمين والإنسانية. أليس ذلك مدعاة لتمادي من يتمادى في التقصير فلا نصل أبدا يوما لأن تتباهى بنا الأمم؟ ألا يظن المرجفون أن ترك الأمور تخرج من تحت السيطرة انحلال عائلي أكثر ومجتمعي أفظع إضافة إلى انتشار أمراض وأوبئة وغضب من الله كبير لا نقدر على تقديره إلا إذا حل بنا فهل نهلك أيدينا بأنفسنا؟ أليس التفكير في حل المشكلات الاجتماعية الجنسية بأقصر الطرق وبقصر نظر مدعاة لتفشي الفاحشة لاستسهال الإتيان بها وضمان عدم الإنجاب واستجابتنا لميل المائلين للاستمتاع بالحياة؟ هل نلجأ للضبط والتنظيم في المجتمعات لئلا تستمر ولادات المشوهين والمعاقين؟ هل نلجأ للضبط والتنظيم في المجتمعات ليكون سن الزواج والإنجاب بعد العشرين؟ -هل نلجأ للضبط والتنظيم في المجتمعات للتمكن من الإنجاب والتربية والإنفاق والحماية وتأمين السكن بأقل التكاليف؟ هل مشكلة تعطل المشاريع وقلة الوظائف وبطء وصول المخصصات وغلاء الأسعار وانتشار الأوبئة وضعف حماية المستهلك وقلة الأمطار والاعتماد على القروض البنكية وضعف الرواتب وانتشار الفقراء في أكثر من منطقة والاعتماد على البترول كمورد أساسي للدخل والتمويل وتأخير النظر في القضايا ومحدودية المتوفر من الأراضي السكنية وتدني نسبة تملك الأفراد للمساكن على المستوى العام مدعاة لتحديد النسل؟. إن صنع البشر للنظريات والمبادئ لا يمكن إنكاره فهي سمة تميز بها بنو آدم بعد أن انتشروا في الأرض، ولكن هل يعني هذا أن نطلق لأنفسنا العنان فنحيك الحياة كما يشتهي الغير ونترك تكييفها لما نشتهي نحن؟ أنا مع التنظيم، لكن ليس التحديد والمنع وعدم الزيادة وغيرها من التعايير الدالة على الوقوف عند رقم معين لكل عائلة في كل بيت أو غيره، فالتنظيم تعايش مع كل مرحلة وخفض لأسباب حدوث المشكلات وتوخي الحذر في كل خطوة نخطوها على المستوى الوطني. تجربة الهند الهند بدأت هذا الموضوع قبل أكثر من 50 سنة، فما هي النتيجة؟. لقد برهنت كل تجاربهم وما تم عمله أن اللجوء للتغيير هو محاولة لتغيير طبيعة الكون ليس الاستفادة من المعطيات والاستمتاع بها أكثر بما يعود علينا بالمصلحة والفائدة، وبالتالي قد نصل لأفضل الحلول. إن التوجه نحو تحديد النسل، أو تحديد نوع النسل، لهو الصدع الذي لم نره أو نشعر بآثاره بعد، لأننا لا نعرف إن كانت النسبة القارئة من المجتمع وبالذات الشباب فهمت أسرار الحياة، ولا نعرف إن كانوا يريدون المشاركة في صنع القرار بعد إدراك خلفياته، لقد زادنا ضبابية لأننا نحاول أن نقلد المجتمعات الأخرى للتماثل معهم وفرض أرضية موازية تحقق لنا المقارنة والخروج بمفاهيم معينة نقول إنها تخصنا في حين أن البنى التحتية غير موجودة أصلا في كثير من المجالات العلمية والتربوية والخدمية.. رؤية واضحة نحن نريد الآن رؤية واضحة لمستقبل المملكة، ثم وضع استراتيجية عامة واستراتيجيات خاصة لكل مجال، يليها وضع خطط تنفيذية ذات مرونة عالية لتغير الظروف الطبيعية، ثم يلي ذلك متابعة وجمع معلومات يمكن تحليلها من كل موقع عن كل كبيرة وصغيرة، وبدراستها يمكن الخروج بما يمكننا من التطوير والتحسين والارتقاء بمستوى المعيشة على المستوى المحلي ثم القطري لمدة 25 سنة ليعاد النظر مرة أخرى وهكذا. لقد قيل إن «كمية الموارد في الأرض تتناقص لأن البشر يتزايدون» ما مدى صحة هذه العبارة؟.. «إذا كنا مؤمنين حقا بما بين أيدينا من كلام الله وهو القائل: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، كما يقول تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).