مثل كل مواطن في هذا البلد الكريم يسعدني هذا الاهتمام المتزايد فيما يسمى بالإسكان الخيري.. الذي يستفيد منه عدد من المواطنين من ذوي الظروف الخاصة.. فليس ما هو أهم من أن يجد الإنسان مع أسرته مأوى يأوي إليه ويستتر به عن أعين الآخرين. لكن الملاحظ أن معظم هذه المشاريع أخذت طابع المدن أو الأحياء الخاصة.. مما يجعلنا نخشى من أن تتحول إلى (كانتونات لعزل الفقراء!) الأمر الذي قد يدفع الكثير من المتعففين للإحجام عنها، لأنهم وبدافع ما تبقى من الكرامة لا يريدون أن ينسبوا عياناً إلى فئات الفقراء وهم الذين كانوا يتعففون الناس السؤال. الزميل صالح الشيحي وقبل أسبوع تناول في زاويته في جريدة الوطن هذه القضية وأشار إلى هذا الجانب ناقلاً بعض الآراء التي تدعو إلى ترميم منازل الفقراء والابقاء عليهم في نفس تجمعاتهم السكانية للحفاظ على مشاعرهم.. رغم عدم وقوفه إلى جانب هذا الاقتراح، كما أشاد بتجربة الشرقية جهة توزيع هذه المساكن داخل الأحياء بحيث تبدو كما لو كانت جزءاً منها، وهنا يجب أن نضيف لهذه الإشادة مشروع الأمير سعود بن عبدالمحسن للإسكان الخيري في حائل.. والذي أخذ ذات الاتجاه حينما تم بناء وحدات سكنية داخل الأحياء القائمة مراعاة لتلك المشاعر. هذا في الإجمال ليس هو موضوعي، وإنما أريد هنا أن أنبه إلى ما بعد إنجاز هذه المدن وتسليمها لأصحابها الذين لا شك سيؤسسون لمجتمعات جديدة ونسيج اجتماعي جديد، حيث لا يربط بينهم أي رابط غير تشابه الظروف وهم الذين سيجمعهم المكان فقط.. فهم في أوساطهم السابقة كانوا يعيشون في إطار التكافل الاجتماعي من قبل جيرانهم وأقاربهم ومعارفهم.. لكنهم حين ينعزلون في هذه المدن أو الأحياء الخاصة.. فإنهم قطعاً سيفتقدون إلى تلك الوشيجة.. لذلك ما لم تتنبه إدارات هذه المشاريع إلى ضرورة إيجاد حلول معيشية لهذه التجمعات السكانية.. فإنها حتما ستتحول مستقبلاً لا سمح الله. وبدافع الحاجة والعزلة إلى أوعية لإنتاج الجريمة. نعم المسكن مهم.. لكن الأهم منه ايجاد نسيج اجتماعي قادر على احتضان بعضه.. أو توفير قنوات كسب لمفردات هذه التجمعات تمنعها من الانجرار عنوة لتسخير هذه العزلة البيئية في صناعة الجريمة لهدف تحقيق العيش. وكلنا يتذكر تلك اللحمة التي كانت تتميز بها مجتمعاتنا المحلية.. قبل ظهور أنظمة المنح السكنية والإقراض السكني التي خدمت بلا شك تلك المجتمعات بتوفير المساكن الصحيحة الحديثة لها.. لكنها أفقدتها نتيجة التشتت الذي أفرزته قرعة توزيع القطع السكنية، خاصة ذوي الدخل المحدود.. أفقدتها منظومة ضخمة وكبيرة ومهمة من قيم الترابط.. احتاجت هذه المجتمعات لما يزيد على ثلاثة عقود لتسترد بعضها.. ببناء جسور علاقات اجتماعية جديدة.. هذا على صعيد أسر منتجة ولها مدخولات معيشية ثابتة.. فكيف هي الحال إذن مع أسر معدمة داخل مجتمعاتها الأصلية بعد أن يجمعها إطار سكني واحد وبلا أي مقوم معيشي.. لا بد وأن تسقط فيه كل أوراق التعفف.. لأن جميع قاطنيها يعرفون أنه لم يجمعهم في هذا الحيز سوى التعادل في مستويات الفقر، مما قد ينجم عنه الكثير من المشاكل التي قد لا يمكن احتواؤها فيما بعد. على هذا الأساس أريد أن أنادي بأحد اتجاهين: إما أن تعمد الجهات الراعية لمشاريع الإسكان الخيري إلى إقامة تعاونيات في هذه المدن توفر فرص عمل لبعض أبناء تلك الأسر، وتكون عائداتها بالتساوي بينها.. أو أن تصرف النظر تماماً عن فرز هذه المشاريع عن المدن والأحياء القائمة، بحيث يتم تنفيذها في نفس المواقع التي يعيش فيها هؤلاء المحتاجون.. للابقاء على حبل السرة فيما بينهم وبين مجتمعاتهم الأصل. وهناك مقترح سبق وأن طرحه الأستاذ مبارك الرباح وهو عضو سابق في مجلس منطقة حائل، والأمين الحالي لغرفتها.. أعتقد أنه جدير بالمناقشة.. حول إتاحة الفرصة للأسر ذات الرابط النسبي الواحد في اختيار مساكن متجاورة، وذلك لدعم الانسجام بين سكان هذه الأحياء أو التجمعات خاصة في القرى، ثم زيادة مساحات الأفنية في المسكن الواحد، مراعاة للطبيعة الاجتماعية لتلك الفئات، واهتماماتها بتربية الماشية وما إليها.. لفتح آفاق معيشية لحياتهم.. عوضاً عن توفير أوعية اسمنتية لإخفاء أجسادهم وحسب!. غير أن هذه المحاذير على أهميتها إلا أنها لا يمكن أن تلغي تلك المقاصد النبيلة لهذه المشاريع الإنسانية التي تستحق منا كل التقدير والعرفان والدعاء للقائمين عليها.