رغم قدرة الأغنية السعودية على الوصول للمستمع العربي إلا أنها عاشت ولا تزال تعيش معاناة كبيرة في الداخل لأسباب عديدة أهمها الرؤى المتشددة التي تحارب الفنون ثم العامل الاقتصادي وتغير معطيات سوق الإنتاج الغنائي. عندما انطلق الغناء منتصف خمسينيات القرن الماضي بدأت حقبة الاسطوانات مع الجيل الأول من الفنانين وكان السوق حينها بسيطاً وخالياً من التعقيدات الآيدلوجية أو الإنتاجية التي تحول دون وصول الفنان لجمهوره البسيط، وكان الفن حاضراً وسط المجتمع متفاعلاً مع الناس في الحفلات والمناسبات الاجتماعية، وقد أسست هذه المرحلة للجيل الثاني من المطربين السعوديين الذين بدأوا رحلتهم مطلع الثمانينيات برفقة الكاسيت وشركات الإنتاج التي كانت -رغم بساطتها الظاهرة- أكثر احترافية مما كان في السابق، وهذا زاد من تعقيد عملية الإنتاج ورفع التكاليف قليلاً، وحينها كان المطرب لا يستطيع تقديم نفسه إلا من خلال الحفلات العامة أو من خلال تسجيل الجلسات، لأن الاشرطة الرسمية الموسيقية كانت قليلة ولا يستطيع تقديمها إلا النجوم الأوائل الذين كونوا قاعدة جماهيرية ومالية وهيمنوا على التلفزيون والإذاعة من حيث مساحة العرض والإنتاج. كانت الثمانينيات مرحلة عاصفة للفنون في المملكة، بسبب حملات التشويه والتبديع التي طالتها من الرافضين لها، وكانت معاناة الفنانين مضاعفة بسبب تغير الوضع الإنتاجي حينها والانتقال لعصر الكاسيت. هذا الجيل المكون من محمد عمر ورابح صقر وراشد الماجد وعبدالمجيد عبدالله وعبدالرحمن النخيلان وسعد جمعة وحسين قريش وصالح خيري وغيرهم، اختفى بعضهم من المشهد لعدم وجود من ينتج له، فيما انتظر البعض الآخر لسنوات طويلة قبل أن يحقق نجوميته ويتصدر المشهد، أما البقية فيظهرون بشكل متقطع متى ما وجودوا داعماً يؤمن بهم وينتج لهم. كانت معاناتهم مادية بالدرجة الأولى، ولم تتوفر لهم حلول تقنية تسهل لهم الوصول لأكبر شريحة من الجمهور، فلم يكن أمامهم سوى تقديم ألبوم كاسيت يكلف عشرات الآلاف من الريالات، وليس من سبيل آخر، لا قنوات فضائية ولا إذاعات خاصة. هذا الواقع الجاف والطارد للفنون، زاده جفافاً هيمنة الآيدلوجيا المحاربة للموسيقى، لكن ذلك بدأ بالتغير عندما جاءت الإنترنت ووفرت حلولاً تقنية جعلت الوصول للجمهور أمراً سهلاً نسبياً. لقد أصبح في يد الفنان الجديد حساب في تويتر وفيس بوك يتواصل بهما مع الجمهور، وصفحة في اليوتيوب يطرح فيها أغانيه الجديدة، لكن بقيت أمامه عقبة كبيرة هي عملية الإنتاج نفسها والتي لا تزال مكلفة وفوق طاقته. هذا الجيل الجديد؛ إسماعيل مبارك، نايف النايف، محمد المشعل، عبدالله عبدالعزيز وغيرهم، يعيشون نفس المعاناة التي عاشها الجيل الثاني، رغم شهرتهم على نطاق جيل الشباب، ولا زالوا ينتظرون بشق الأنفس منتجاً خاصاً أو حفلات مستمرة لتكوين قاعدة جماهيرية ورصيداً مالياً لتقديم ألبوم على أقل تقدير. لم تخدمهم شركات الإنتاج الكبيرة المسيطرة على السوق، وابتعدت عنهم الفضائيات السعودية الرسمية والخاصة، وتركتهم يواجهون التهميش والضياع وخطر الاعتزال. بعد قرار النسخة الأصلية الذي بدأت وزارة الإعلام بتطبيقه منذ منتصف الثمانينيات، ولد في سوق الكاسيت عدد هائل من مؤسسات الانتاج التي اضفت إلى الساحة الفنية نوعاً من التنافس في تقديم العمل الفني بشكل جيد، هذه المرحلة التي امتدت ما بين نهاية الثمانينيات والألفية الجديدة، كان التنافس فيها على أشده بين الفنانين وكانوا يتسابقون للاتفاق مع شركات الإنتاج المتوفرة بكثرة حينها، بعضهم ينجح وبعضهم يخفق والبقية تتعطل وتنشط بين فترة وأخرى. أما نجوم الجيل الجديد فليس أمامهم سوى شركتين في الغالب لا تهتم بهم ولا تضعهم ضمن خططها الإنتاجية، وإذا أبدت اهتماماً بهم فإنها تضع أمامهم شروطاً تعجيزية أولها أن تحتكرهم لمدة 15 عاماً لا يستطيع أن يتنفس خلالها الفنان الشاب إلا بموافقة الشركة. كل المنافذ مغلقة الآن أمام الفنان الشاب، فإما أن ينزوي أو يوافق على شروط مستحيلة، أو يجد له متبرعاً ينتج له ألبوماً، أو يعتمد على نفسه ويجمع مالاً ليخوض مغامرة الإنتاج، كلها عوائق قد تفضي إلى اندحار الفن الغنائي في المملكة. فبعدما كان الوسط الفني السعودي يمتلئ بالمطربين من كل مناطق المملكة، من الغربية؛ طلال ومحمد عبده ومحمد عمر وعبدالله رشاد وعلي عبدالكريم، ومن الشرقية رابح ومحروس الهاجري وعيسى وطاهر، والوسطى فهد بن سعيد وسعد جمعة ومزعل والنخيلان، والشمال سلامة العبدالله وفهد عبدالمحسن، وغيرهم في الجنوب، ينشطون في وقت واحد ويتنافسون لإرضاء جمهور متعطش ينتظر جديدهم رغم الصعوبات والعوائق، بعد هذا النشاط انتهينا إلى جيل جديد ليس فيه سوى أربعة مطربين شباب مهددون بالضياع. وضع الأغنية السعودية الآن بات على المحك، ولابد من تدخل وزارة الثقافة وجمعيات الفنون لإنقاذه وبث النشاط فيه من جديد. لابد من السماح بعودة الحفلات العامة في مدن المملكة لكي يستطيع الفنان الشاب تكوين نفسه ويمتلك القدرة المالية والإبداعية على إنتاج أغانيه الجديدة بنفسه وبعيداً عن الشروط التعجيزية لشركات الإنتاج. لابد من وضع استراتيجية جديدة لدعم الأغنية والمحافظة على الإرث الموسيقي العظيم الذي صنعه المطربون السابقون. محمد المشعل عبدالله عبدالعزيز