قد يكون من غير الدقيق تعبير الظاهرة الأردوغانية نسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحده. إلا انه على الرغم من أن الظاهرة تمتد لطيف أوسع تشكله رموز حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ورؤيته التي مكنته من تحقق هذا التطور الكبير في الحالة التركية، إلا ان الوهج الأكبر والتأثير الأهم، والالتقاط المستمر لوسائل الإعلام، ارتبط بشخصية قائد الحزب ورئيس الدولة رجب طيب أردوغان ولهذا يصبح تعبير الظاهرة الأردوغانية مبرراً. لا يكاد يمر أسبوع إلا وأردوغان يبرز كظاهرة إعلامية بتصريحات غير مألوفة وخطوات عملية باتجاه تجسيد رؤيته لمستقبل تركيا. وبعد أن كاد يصبح في نظر كثير من المحللين في عداد ضحايا الفساد.. وكاد أن يصبح ديكتاتوراً عندما اتخذ قراراً بحجب بعض مواقع التواصل الاجتماعي في تلك الفترة الحرجة، التي صاحبت المظاهرات والاحتجاجات في بعض المدن الكبرى.. إلا أن صناديق الاقتراع سواء فيما يتعلق بالانتخابات البلدية أو بانتخاب رئيس الجمهورية.. جاءت لتكشف أن حصاد حقل الفساد لم يكن سوى قش تذروه رياح بيدر صندوق الاقتراع. وربما هذا يقدم دلالة كافية أن توجهات بعض المحليين السياسيين لتطورات الحالة التركية قد لا يكون بالضرورة تعبيراً دقيقاً عن الواقع التركي.. وأن خيارات الناخب التركي ليست بالضرورة مرتبطة بقضايا الصراع السياسي، التي لم توفر وسيلة إلا استخدمتها في صراعها لهزيمة الخصم. صندوق الاقتراع سيظل الفصل الحاسم في تقرير طبيعة العلاقة بين الحزب والمواطنين الأتراك. ولا مؤشرات لتوجه ذلك الصندوق، سوى نحو مزيد من المكاسب التي طالت الأتراك خلال سنوات حكم الحزب. وباختصار إنها الخدمات والاقتصاد والعمل. الظاهرة الأردوغانية، لم تبدأ منذ سنوات، فقد بدأت في بلديات المدن الكبرى قبل أكثر من عقد. إنها المفتاح الأهم للوصول إلى الناخب عبر التغيير الذي يشعر به المواطن التركي وقد كان. يجب ألا تعمي الايديولوجيا العيون عن مستوى الإنجاز وامتداده وتأثيره الذي طال حتى غير المؤيدين لحزب العدالة والتنمية، كالقوميين والعلمانيين الأتراك. لاعب كرة القدم السابق، ربما منحته هذه اللعبة قدراً جيداً من فهم علاقة الإنجاز بروح الفريق. هندسة فريق يؤمن بالقدرة على صناعة الإنجاز، هو الذي قدم الحزب لواجهة الحكم في تركية، وبعد سنوات من الصراع بين اليسار واليمين التركي دون تحقيق منجز يعتد به. وصل أردوغان عبر حزب معلمه نجم الدين أربكان (حزب الرفاه) إلى رئاسة بلدية استانبول. مدينة ظلت تعاني من تلال الزبالة، وانقطاع الماء المستمر، وتلوث الهواء، وتعثر المواصلات. وخلال أربع سنوات حقق معجزة في هذه المدينة الرئيسية. اختفت تلك المشكلات.. شعر المواطن التركي أن ثمة تغييراً يستحق الإشادة بهذا الفريق الجديد. تأسيس حزب العدالة والتنمية جاء على أنقاض حزب الرفاه، الذي حله القضاء تحت ضغوط العسكر وغلاة العلمانيين النافذين، الذين كانوا بالمرصاد للأحزاب أو القوى التي قد تهدد الإرث العلماني الأتاتوركي. وقد أدرك أردوغان ورفاقه أن إدارة نجم الدين أربكان المتعثرة يمكن أن توفر فرصة أفضل لحزب ثالث يتلافى أخطاء أربكان.. وعثرات حزب الرفاه ومن بعده حزب الفضيلة.. الذي تم حله أيضاً. ومنذ أن وصل حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا لم تتوقف إنجازاته عند حدود خدمات البلديات، بل طالت الاقتصاد التركي برمته. فمن دولة مدينة إلى دولة دائنة. ومن دولة مترددة بين اليمين واليسار إلى دولة تختط طريقاً جعل منها في عداد الاقتصادات المتقدمة في العالم. تضاعف دخل الفرد التركي لثلاثة أضعاف ما كان عليه. ارتفاع مستوى المعيشة وانتشار الخدمات وعدالة توزيعها لم تجعل قضية فساد هنا وهناك - إن ثبتت - كافية لسحب الثقة من الحزب. ويجب ألا نغفل دور الطبقة الرأسمالية التركية في تقدم الحزب، وهي التي عرفت نمواً وازدهاراً مع نمو الاقتصاد. والطبقة الاجتماعية المتوسطة عرفت امتداداً لم تعرفه بالسابق. أما الطبقة الفقيرة فقد استفادت من سياسة الحزب الاجتماعية في توفير حدود الكفايات وفتح أبواب الأمل. عندما بدأ تسريب معلومات عن الفساد الذي طال بعض رموز الحزب، كان من المنتظر لدى كثيرين أن يسقط الحزب تحت الضربات المتواصلة من الخصوم.. قضايا الفساد وترت الأجواء بطريقة كانت توحي أن الحزب لم يدر هذا الملف بطريقة تجعله بمنأى عن الحساب العسير. إلا أن الناخب التركي لم يجد أمامه سوى حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية، وكلاهما ظل يعمل في المركز، بعيداً عن النواحي والأرياف التي عرف حزب العدالة والتنمية طريقه إليها.. ناهيك أن المنطقة الكردية في الجنوب الشرقي ظلت ترى في طروحات الحزب ما يقترب من تحقيق بعض تطلعاتها.. خاصة وانه لا يعتمد الطرح القومي، بل يركز على بعد آخر. دولة عدالة تتسع للجميع ذات طابع علماني.. لا تعادي الدين بل تنحاز لإيجابياته.. وهي تراه جزءاً من تكوين وجدان الشعب التركي بكل ألوانه وأطيافه. إلا أن قضايا الفساد وتبعاتها كثفت الهجوم الإعلامي على الحزب، وألقت بظلال من مخاوف نمو ديكتاتورية جديدة في مواجهة الصراع مع الخصوم. هناك مناطق غامضة في الخصومة الشديدة بين أردوغان وفتح الله غولن، ولم تظهر تلك الخلافات بهذا الشكل المكشوف إلا بعد النجاح في تحييد المؤسسة العسكرية التركية إلى حد كبير، والتي ظلت تاريخياً الحامية للدستور العلماني للدولة، وما بدا انه سياسة أكثر جرأة للحزب في مواجهة القضايا الداخلية والخارجية. تحالف حزب أردوغان مع فتح الله غولن تحول إلى خصومة شديدة وخلط أوراقاً كثيرة وصنع تحالفات جديدة. وتؤكد بعض المصادر أن هذه الجماعة الدينية المتصوفة التي يقودها فتح الله غولن تملك قاعدة من البيروقراطيين الذين نجحوا في اختراق أجهزة الدولة في تركيا، كما أنها تملك قاعدة من رؤوس الأموال قوامها رجال الأعمال ذوو الميول المحافظة، والذين كان لهم دور في نمو الاقتصاد التركي خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية. خلال الأسابيع الماضية تقدم الحضور الأردوغاني لحواف المحيط الأطلسي، فلم يتردد أردوغان في إطلاق تلك التصريحات، التي استعادت سابقة البحارة المسلمين الصينيين في اكتشاف القارة الأمريكية.. كما لم تبرح صور أردوغان تلك الاحتفالية الكبيرة بالتوسع في التعليم الديني وهو يرتدي الجبة. أما الصراع من أنصار فتح الله غولن فلا زال مستمراً. أردوغان وصف أنصار غولن بأعداء الداخل. الشرطة التركية أوقفت صحفيين ومخرجين ومنتجين، والصحافة التركية نددت بالاعتقالات، والاتحاد الأوروبي استنكرها، إلا أن أردوغان طلب من الأوروبيين أن يهتموا بشؤونهم!! إلا أن التطور الأهم هو ذلك المتعلق باللغة التركية. حيث ظهر مشروع يعمل على استعادة مفردات اللغة التركية العثمانية. وبعد تلك القطيعة الأتاتوركية ها هو يظهر توجه جاد لاستعادة التراث التركي العثماني. قد يكون من المستبعد أن يعود الأتراك لرسم الحرف العربي كما كان الحال عليه قبل سقوط السلطنة العثمانية.. فهذه المحاولات تهدف لوصل ما انقطع بين لغة الأتراك اليوم وبين تراثهم القديم. وقد يوحي هذا بأن الحماس الكبير لحراسة تراث أتاتورك لم يعد كما كان، وهو الذي حسم تلك القضية قبل أكثر من ثمانين عاماً لصالح معجم تركي جديد بالحروف اللاتينية. ولم يكن السلطان الجديد، وهو اللقب الذي تتداوله بعض وسائل الإعلام على لسان محرريها ومحلليها سوى نوع من الإيحاء بتوجه أردوغان لاستعادة نفوذ وأحلام السلطنة العثمانية.. إلا سياسة حزب العدالة والتنمية لا تبدو منحازة لتلك المرحلة قدر انحيازها لبناء تركيا جديدة لا تنفصل عن تراثها، ولا توجد شواهد اليوم تؤكد السعي لتلك الأحلام غير الممكنة بل والمستحيلة، فليس هناك إمكانية لاستعادة السلطنة العثمانية فهي لن تبرح أن تكون جزءاً من التاريخ.. وإن كان هناك طموح بمراكمة مكاسب لا تتناقض مع مستقبل تركيا العلمانية.. بتوازن يجعلها أقرب إلى حالة بناء جسور مع تركيا العثمانية لتعزز حضور تركيا الحديثة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. لمراسلة الكاتب: [email protected]