لم تكن تنتظر "شمعة" تلك النهاية المأساوية لحكايتها المثيرة التي نسجت ظفائرها أصابع الزمن لحياكة حياة جميلة مترعة بالحب والفرح والسعادة والحرية، وهي حياة طالما حلمت بها كل ليلة، لتتخلص من سطوة الأهل والعادات والتقاليد والأعراف. شمعة، وهو الاسم المستعار، ذات ال 18 ربيعاً، والممتلئة جمالاً واندفاعاً وتمرداً، وجدت في ذلك الشاب الجميل، فارس أحلامها الذي سيُحلق بها على صهوة عالم يضج بالصخب والتحرر والخيال، بعيداً عن ملامح الكبت والانزواء والانغلاق. حينما خفق قلبها الصغير لأول مرة، لم تكن تُدرك بعد، ماذا تُخبئ لها الأقدار، ولكنها كانت تعيش "حالة حب" صاخبة، هي أشبه بغيمة فرح، حجبت عنها أشعة الحقيقة. من أجل ذلك الحب المنشود وتلك الحياة الجميلة، تركت شمعة مقاعد الدراسة الجامعية التي عشقتها منذ أول يوم دراسي، لأنها كانت تعي رغم صغرها ضرورة الحصول على شهادة جامعية، قد تعتمد عليها كسلاح تدافع به عن حياتها من غدر الزمان وقسوة الإنسان، ولكنها كانت على استعداد تام للتخلي عن كل شيء، للفوز بحياتها الجديدة. تزوجت، وقطعت مع زوجها كل تلك الصحراء الممتدة، لتصل الى جنتها الموعودة. لقد تركت شمعة كل شيء وراءها، صدر أمها الدافئ وصوت أبيها الحنون وضحكات الأماسي الجميلة مع أخواتها وصديقاتها. تركت كل شيء، لتحيا حياتها الجديدة، والتي بدأت فصولها وأحداثها تتلاحق بإيقاع سريع وغريب. منذ الساعات الأولى التي حطت بها قدماها الطائرتان بنشوة الفرح والسعادة التي حملتها معها في حقيبة الزفاف والتهاني والتبريكات، بدأت فصول حكايتها الحقيقية. الألم والحزن والحسرة وكل ألوان المعاناة، كانت بانتظارها في ذلك "البيت المسكون" بالزيف والكذب والخداع، ووسط عائلة، بل مجتمع، يرى في المرأة، مجرد وسيلة للإنجاب ومتعة للرجل وخادمة للأسرة. 6 سنوات، عاشتها شمعة وهي تذبل كل يوم وليلة، حياة ذليلة وبائسة ورخيصة، مع زوج يُفاخر بالخيانة أمام زوجة غريبة ووحيدة، وعلى مرأى ومسمع عائلة لا تجد مشكلة في تلك السلوكيات المشينة، لأن الرجل في عرفها طبعاً لا يُعيبه ذلك مطلقاً. لقد شعرت شمعة بأنها سقطت في وحل من الأحزان والأوهام والضياع، حاكت حبائله اللعينة، غواية ذلك الحب الطفولي العبثي. حاولت، خلال تلك السنوات، أن تتحمل وتتكيف مع هذه الحياة التعيسة، وتُمنّي نفسها بتغير ذلك الزوج الغادر، ولكن كل ذلك لم يحصل، فقررت أن تُنهي هذه المعاناة التي غيرت ملامحها الجميلة وشوهت روحها الشفافة. وفي زيارتها الأخيرة لأهلها، حزمت أمرها، ولم تعد مع ذلك الذئب البشري الذي انتزع منها حياتها، كل حياتها، وحولها الى ظل مفرغ من كل معاني الحب والأمل والطموح. عادت شمعة مكسورة لغرفتها التي غادرتها سعيدة قبل 6 سنوات، لتجدها باهتة الألوان وخالية من الفرح. لقد تغيرت شمعة، وتغيرت غرفتها، وتغيرت حياتها، وها هي تعود لبيتها القديم، لتزداد أحزانها وخساراتها بفقد الأب الحاني بعد مدة قصيرة من عودتها. شمعة الآن، مجرد ملامح أنثى، بلا نبض وبلا روح. لقد أصبحت شمعة، مجرد ورقة طلاق، كُتبت بحبر آلامها ومعاناتها، وهي الآن تبدأ فصلاً آخر. شمعة المطلقة، هو عنوان الجزء الثاني من حكايتها الحزينة. هي الآن، تُحاول أن تُرمم شرفات قلبها الذي أنهكه الألم، وسط تلك النظرات السافرة التي تُلاحقها، وتلك الأسئلة الموجعة التي تُصوّب لما تبقى من كبريائها. لم تتجرأ على الاندماج مع محيطها، ولم تستطع العودة لمقاعد الجامعة، ولم تُحاول البحث عن وظيفة، لأنها قد أصيبت بفوبيا من كل شيء، فالفتاة المطلقة كالبيت القديم الذي لا يُعجب أحداً، ولكنها رغم كل آلامها، مازالت تحمل قلباً مؤمناً بقضاء الله، ونبرة صوتها الحادة لم تُفارق مسامعي: "ذلك هو الجزء الحزين من حكايتي، ولكن القادم أجمل بإذن الله". تلك هي قصة شمعة، بل قصة الآلاف من المطلقات الملاحقات بسهام الأسئلة والفضول والظنون والمعاناة.. لم أكن أظن بأن حكاية شمعة، ستلتهم كل المقال، لأنني كنت بصدد الكتابة عن ظاهرة الطلاق، هذه القنبلة الموقوتة التي تُشكل تهديداً خطيراً على بنية مجتمعنا. المقال القادم، سيتناول ظاهرة الطلاق في المملكة.. أسبابها وتداعياتها.