يقول أهل الاختصاص بأن الإنسان " كائن عاقل متكيف " والمقصود هو التكيف مع البيئة من حوله . ولأن الإنسان جسد وروح فالتكيف يتناول الجانبين وليس جانب الجسد فقط . ولتبسيط الفكرة فالإنسان في البيئة الجبلية تكون عظامه قوية , أما الإنسان في البيئة البحرية الساحلية تكون عضلات يديه قوية , وفي الأجواء الحارة تسمر البشرة ويكبر الأنف ... هكذا يتكيف الجسد مع البيئة المحيطة وهكذا يؤقلم الإنسان حياته , وهذا التكيف فطري وجبلي في الإنسان , ولا يحتاج إلى تحرير وإثبات , ولكن هذه البديهة تقفز إلى الناصية عندما نتحدث عن الجانب النفسي في الإنسان ! أين هذا التكيف في العلاقات الإنسانية ؟و الأسرية ؟ والاجتماعية ؟ أولئك الذين يعانون من القلق والاكتئاب والمشكلات التي تؤدي المعاناة النفسية , لديهم قصور في التكيف النفسي !! قال تعالى ( والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) محمد 2 فالعمل بالجسد والإيمان من داخل النفس وصلاح البال هو السعادة بعينها . فالإنسان لا يستطيع تهيئة البيئة من حوله بما يتناسب وسماته الشخصية ولكنه بالتأكيد يستطيع تهيئة ذاته ليتوافق - ولو جزئيا - بالبيئة الاجتماعية من حوله , من خلال التعرف على ذاته وصفاته الشخصية بشكل دقيق ثم من خلال أهداف واقعية يسعى إليها من خلال مبادئه الإسلامية وقيمه الراسخة والمنسجمة مع سماته الشخصية ثم يتوج هذا كله بالمرونة وسماحة الإسلام التي تمكنه من التكيف النفسي مع من حوله , كثير منا يعاني من الاضطرابات النفسية وتلبك في العلاقات الاجتماعية , وغالبا ما يكون السبب اختلال في هذا الجانب الهام ( التكيف النفسي مع الواقع ) أحيان لعدم وضوح الهدف وأحيانا عدم معرفة الذات وأحيانا كثيرة بسبب اختلال في القيم والمبادئ!! خذ مثلا حياة موظف غير مستقرة في عمله ! مضطربة مع رؤسائه !وزملائه ! ثلث ساعات يومه يقضيها في بيئة عمل متنافرة و متناقضة مع نفسه !! هل تستغرب معاناة هذا الشخص من الاكتئاب ؟ هل تتصور إمكانية استمراره في عمله ؟ ثم هل تتصور استقرار حياته الأسرية ؟ و الاجتماعية ؟ ترى أين الخلل ؟ هل المشكلة في ذاته أم في بيئة العمل المجبر عليها ؟ لاحظ انه أيا كانت طبيعة العمل وبيئته جاذبة أو منفرة ! فمن الحكمة ترويض الشخص لذاته من خلال تفعيل القيم والمبادئ ليتوافق مع بيئة عمله وليس العكس ومن العبث غير المجدي محاولة تهيئة بيئة العمل لتتوافق مع شخصية الموظف حينها سوف يستنفذ الموظف كل طاقاته دون جدوى. كان صديقي يتشكى دائما من وظيفته ويتضجر من الدوام وغالبا ما يبحث عن الحجج ولو كانت تافهة للتغيب عن عمله ,وفي جلسة صداقة وفضفضة , تلمست منه مهمة بغيضة للغاية يجب عليه أدائها , وتسببت في إرباك بيئة عمله بكاملها . فقلت له : هل مهام عملك كلها بهذا السوء؟ فأجب : لا بالطبع فهناك مهام مقبولة .قلت : ولماذا تركز على هذه المهمة فقط ؟! وتعتبرها كل وظيفتك ؟؟ اسمع يا صديقي : الجميع في عملهم يفاجؤن بمهام بغيضة ومقرفة , ومن الحكمة توجيه تفكيرك لمهام عملك الممتعة وتجعلها دائما في مقدمة تفكيرك في العمل , وتناسي المهمة البغيضة ومحاصرتها بطريقة أداء تجعلها مقبولة وتبعد عنها عنصر التنفير, - هذا دورك أنت وليس غيرك - بدلا من التشكي والتضجر منها , يا صديقي العقل الباطن حين تحدثه عن الخوف من المرض يأتيك المرض وحين تحدثه بخسارة مال يأتيك بالخسارة وحين تتحدث إليه بالنجاة والنجاح والربح والتفوق يأتيك به , أنت تختار أن تكون سعيدا أو شقيا ,( وهديناه النجدين ..) هكذا البشر يبدو الجسد والروح كما يفكر العقل و تأمل الروح . ولذلك جاء في الحديث القدسي ( أنا عند ظن عبدي بي ...الخ) وفي حديث أخر ( إن ظن بي خيرا فله و إن ظن بي شرا فله ) خذ ورقة وقلم و اكتب سمات شخصيتك وضعها في مكانها الصحيح من أنماط الشخصية الإنسانية وحدد مهاراتك وقدراتك وما أنت عاجز عن فعله . ثم حلل وادرس بيئة عملك وعوامل الجذب فيه وعناصر التنفير في وظيفتك , وبناء على تلك المعطيات تعال معي نرسم له خريطة التعاملات مع المواقف و نضع أهدافك البعيدة ثم أهدافك الفرعية القريبة و تسلح بالصدق والإخلاص وإتقان العمل واحتساب الأجر , بحيث تكيف نفسيتك لتقبل واقع وظيفتك وبيئتها , ولو بتضخيم جوانب الجذب , وتصغير جوانب التنفير ,وتمرين الذات للتعامل معها بأقل تأثير سلبي . وقل مثل ذلك للزوجة مع زوجها , وللتاجر في السوق , وللطالب في المدرسة , و للمبتعث في غربته . فالكل يستطيع أن يوطن نفسه بالقبول و الرضا أو يعاني من آلام الرفض والقنوط وليس له بد .