في مناقشتي مع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل عن محاضرته التي ألقاها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن الاعتدال اتفقنا معاً على أن الاعتدال نظرية ومنهج وهي محاضرة قيِّمة تحمل مفاهيم جديرة بالمناقشة والإلمام الواعي بحقيقة الاعتدال إذا أخذناه في بعده الديني لقوله تعالى (وجعلناكم أُمة وسطاً) الآية أو البعد السياسي الذي قام عليه الحكم السعودي الذي بنى أسسه جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله مستمِدَّاً من الشريعة الإسلامية نصوص النظرية والمنهج الذي استقاه المحاضر الأمير خالد الفيصل وشرح مضامينه باسلوب علمي يعول عليه كمرجع بحثي قام على رؤية عميقة استنطقت التاريخ واستجلت ما استغلق على العقول في السلوك والأسلوب في تتبُّع أبجديات الزمان والمكان استدلالاً نشأ من أعماق الفكر الإسلامي منذ العصور الماضية كتنظير ثم أضحى منهجاً يقتضيه الدين والعرق والأخلاق يستمد واقعه من التجربة المتمثلة في النظام السعودي عبر أدواره المتعاقبة منذ الإمام محمد بن سعود مروراً بالملك عبدالعزيز الذي رسخ مفهوم النظرية والمنهج الذي سار عليه أبناؤه سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله لم يحيدوا قيد أْنمُلة عن استمرارية التطبيق وإن توسع الملك فيصل رحمه الله في تقنين وتأصيل منهج الاعتدال وزاد عليه بنظرية المساواة التي أسست نظرية مفردة المعالم والتطبيق وألزم نفسه بها طيلة سنين حكمه رحمه الله فكانت تجسد منطقية الرأي والرؤية وجرأة العمل وجدِّة الفكر وهو ما لا يختلف عليه أحد إذ إن الملك فيصل لم يكن حاكماً فقط فهو ببعد نظره قرأ الماضي قراءة الواعي لأحداث التاريخ وأحدث بعقل العبقري المستلهم بنور الله آفاق المستقبل ليكون المعلم والمخطط والمُقنن لمسيرة أُمة ووطن وتحقيق تطلعات الممكن على رغم المستحيل،ولو قُدِّر للملك فيصل الحياة أطول لاستعدنا مثالية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تجسيد مبدأ العدالة والمساواة في ظل منهج الاعتدال ولكنَّ القدر كان أسرع من بلوغ الأمل ولله في خلقه شئون. وعندما ندخل إلى أعماق المحاضرة نخلص إلى النتائج التي عناها المحاضر بشكل يترك للمتلقي مساحة من إدراك الواقع المعاشي لنظام متكامل في بنيانه وأدائه ويفتح أبواباً للنقاش الصحي والمقارنة بين سائر الأنظمة الوضعية وبين النظام الذي نعيشه غير مدعين الكمال وإن كنا ننشده ولكنَّ الكمال لله سبحانه وتعالى،وهنا يتوجب علينا معرفة الاعتدال وهو من عدل الشىء إذا قومه عن الميل ليكون مستقيماً لا عوج فيه والاعتدال كنظام سياسي هو تحقيق العدل والمساواة بين مختلف الناس لا فرق بينهم إلا بالعلم والعمل والصدق والإخلاص لله ورسوله وإذا أمعنّا النظر نرى أن الإجماع على منهج الاعتدال بشكله العصري يتمثل في النظام السعودي أكثر من غيره إذ إن النظام السعودي لم يَسُنَّ دساتير وضعيّة تتغير بتغير الأحداث والأشخاص إنما كان دستوره القرآن الكريم والّسُّنَّة النبوية ثم الاجتهاد الذي لم يخرج عن إطار القرآن والسنة لذا كان منهج الاعتدال مؤدياً للأهداف السماوية أهمها العيش الذي يضمن كرامة المواطن وصون دمه وماله وعرضه ساعياً إلى تطويره فكراً وعلماً وعملاً ليتحقق الهدف الأسمى لقوله سبحانه وتعالى(كنتم خير أُمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) لقد أحسن المحاضر الأمير خالد الفيصل صنعاً إذ لفت إلى مفهوم الاعتدال فسجل بكارة الفكرة وطزاجة الطرح وعمق الهدف الذي غاب عن الكثير وهو ليس غريباً على من عرف أبعاد خالد الفيصل الفكرية والعلمية والأدبية والفلسفية فالكثير عرف الأمير خالد شاعراً ومبدعاً ولم يتعمق في شعره ليكتشف العقل المفكر فيه وأخال أن خالد الفيصل لا تمضي دقائقه وساعاته وأيامه دون الدخول إلى عوالم الكون يستجلي المعرفة ويستنطق الصور المرئية في خلق الله وتسجيلها في بؤرة شعوره ليسكبها للمتلقي أفكاراً تحمل قيماً كونية وبصيرة إيمانية استفرغها في شعره ونثره فكانت روحاً نابضة بالحيوية والانبعاث المتجدد بأفكار الأُمة فأنت حين تسمع شعره المُغنَّى أُدخل إلى مكنون شعره الخفي بعد أن تتلذذ وتستمتع بسطحية النغم لترى ما تحمله القصيدة من معانٍ داخلية لا تستبين إلا لمن أوتي قدراً غير قليل من العلم للدخول إلى عوالم الشاعر خالد الفيصل واَستدِلُّ بقصيدته (مجموعة إنسان) التي تكتشف منها عوالم خالد الفيصل النفسية والأخلاقية والإنسانية فضلاً عن كثير من شعره الذي كلما تعمّقت في مضامينه خرجت برؤى وصور وجماليات تجعلك تدرك أن الأديب الشاعر خالد الفيصل هو مفكر قبل أن يكون شاعراً وفيلسوفاً بعد أن كان مفكراً وشاعراً ،ويكفي أنه رجل آتاه الله علماً جعله مضيئاً من كل جوانبه،فأنت تراه في الإدارة خبيراً،وفي السياسة بارعاً وفي الرسم والشعر فناناً ،وفي نظامه الحياتي مُقنناً لواجباته له بصماته في كتاب الدهر بحيث لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وقد أشبعها بحثاً وتدبراً والماماً،وأنا أتحدث هنا عن جوانب معرفية عمقية حين سبرت أغواره قبل أن ألقي الكلام عنه ولست والله متحيزاً له كأمير بقدر تحيزي له كمبدع أوقد مشاعل الفكر الإنساني بشموس الفضيلة والعمل الجاد لنصرة قضايا الإنسان المعاصر وألزم نفسه بسمو النفس وعزة الإنسان في كل مكان دافعه الحق والحقيقة وتذليل مكاره الحياة وتسهيل الولوج إلى صعابها فهو لم يتصنّع الحكمة ولكنَّه فُطر عليها موهبة من الله لقوله سبحانه (يؤتي الحكمة من يشاء) وسيظل خالد الفيصل أحد المعالم الوطنية والعربية والإنسانية عبر الحقب الزمانية وأحد الذين يشار إليهم بكل الاهتمام والتقدير والإبداع ويظل رافداً لحضارة الإنسان بما أبدعه من أعمال شاهدة على صدقه وبعد نظره في تقلبات الحياة والمساهمة في اصطناع الأمل الهادف لخيرية الحياة والإنسانية من خلال المنهج الاعتدالي المعتدل لصيرورة وكينونة النظام السعودي الذي يستمد منه العالم المتقدم كثيراً من معطياته في قيادة الشعوب وهي محاضرة سوف تكون مرجعاً للباحثين والدارسين في أسلوبية الحكم السعودي. أتمنى أن لا تعقم هذه المحاضرة وأن يُقدم لنا سموه من نفائس فكره ما يفتح آفاقاً جديدة في عالم الفكر المعاصر بما أعلمه من قدرةٍ ذهنيّة قادرة في عقله المستنير ،وأتمنى أن تُنعم القيادة ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله وحكومته الرشيدة بتكريم الأمير خالد الفيصل على مستوى الدولة بأرفع وسام لمساهمته في تطبيق المنهج الاعتدالي وسموقه الإبداعي الذي شهد به الأعداء قبل الأصدقاء،إن خالد الفيصل بفكره الوثَّاب وإبداعه المبتكر حافظ على ترسيخ المفاهيم والقيم الأخلاقية وساعد على ثبات النظام السعودي بالتحقيق والتطبيق لمقوماته الدينية والسياسية ومحاضرته دعوة لكل من ألقى السمع وهو شهيد إلى الاعتدال كمنهج اصطلاحي وإصلاحي تأسس عليه واقع أُمة ووطن اتفق الجميع على قبوله في إطاره النّظري الذي أضحى منهجاً يتسم بروح التقارب الإنساني. أشكر لمعالي الدكتور الصديق محمد العقلا مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هذه البادرة الطيبة باستضافة علم من أعلام أُمتنا العربية والإسلامية المفكر الأديب الأمير خالد الفيصل وأشكره مرة أُخرى لحرص معاليه على دعوتي لحضور هذه المحاضرة الرفيعة والقيمة ولو أني اعتذرت لمعاليه عن الحضور نظراً لتكريمي بالمغرب بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس ولكني تابعت بعين القارىء وطالب العلم أصداء المحاضرة وليس لي إلا الدعاء لكل من يرتفع بالقيم ويسمو بالأهداف بالانفتاح على المعرفة والثقافة وإضافة لبنة تضاف إلى سموق الوطن ورقي الأُمة. من قصيدتي البدر الخالد : الخالدُ النابهُ المحمودُ سيرتُهُُ القائلُ الصادقُ الفعَّالُ والحَكَمُ الشاعرُ النّابغُ الغِرِّيدُ بلبُلُنَا غَنَّى به العصرُ والآبادُ والأُمَمُ هذا الأميرُ الذي أثرى حضارتَنا وإنَّه المجدُ في الأحداقِ يرتسِمُ قد أورقت من ندى يُمناه مكَّتُنا وشمَّرت تقتفي آثارَهُ الهِمَمُ أسرى به الحقُّ فاشتدت عزائمُهُ وقالَ للظلم : سيفي مِنكَ ينتقمُ يبني الصروحَ على الأمداء سامقةً مؤيدٌ بالتُّقى بالله يعتصمُ حتى غدى موطنُ الإسلامِ مُؤتلِقاً يَشِعُّ بالنور فيه الحِلُّ والحَرَمُ لله دَرُّكَ جُبتَ الأرضَ تذرعُها ورحت تنثرُ فكراً كُلُّهُ قِيَمُ بوركتَ يا دوحةَ الأخلاقِ مُبتهِجاً وبُورِكَ العزم في دنياك يبتسمُ إنِّي أُغنيكَ لولا أنتَ ما صَدَحَتْ بَلابلُ الشِّعرِ واستعلى بها الكَلِمُ أبُثُّكَ اليومَ حُبَّاً أنتَ باذِرُهُ فاجنِ المحبةَ حقَّاً إنها النِّعمُ وكُنْ لنا العينَ إن ضلَّت بَصائِرُنَا وكُنْ لنا القلبَ يا من طبعُك الكَرمُ مرحى أبا بندرٍ تُعلي مدائننا يا خالدَ الذكرِ يروي مجَدك القلَمُ ماذا أقولُ وبعضُ القولِ نافلةٌ ؟ ومن يُطاولُ من تسمو به القِمَمُ ؟