تأخذك الطربية إلى أقصى تخومها وأنت تترنم بقصيدة الشاعر الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- التي جادت بها قريحته بمناسبة افتتاح (جسر الملك فهد) بين السعودية والبحرين قبل ثلاثة عقود. افتتح القصيبي قصيدته الرائية الآسرة بهذا البيت الباذخ: ضَرْبٌ مِنَ العِشْقِ لَا دَرْبٌ مِنَ الْحَجَرِ / هَذَا الذِي طارَ بِالوَاحَاتِ للجُزُرِ، وهنا تتجلى شاعرية القصيبي الفذة حينما جعل الجسر يخرج عما تواطأ عليه الناس من كونه جسمًا جامدًا لا روح فيه إلى كونه حالة فريدة من العشق الأزلي النابض بالخير والمحبة والسلام بين دولتَين شقيقتَين، فجاء -أي الجسر- مجدِّدًا حالةَ الوصل، ومؤكِّدًا ديمومةَ الاندماج والتناغم رغم ممارسة البحر لحالة من العزل بينهما. من الساحل الشرقي لمملكتنا الحبيبة ينقلنا طائر الأمل على جناحَي الشِّعْر لنحط في الساحل الغربي، وتحديدًا في عروس البحر الأحمر (جدة) لنردد مع شاعرها حمزة شحاته -رحمه الله- رائعته في جدة حينما قال في مطلعها: النُّهَى بينَ شاطئيْكِ غريقُ / والهوى فيكِ حالمٌ ما يفيقُ، ويمضي شحاته في قصيدته التي بث فيها لواعجه تجاه جدة لنصل معه إلى هذا الشطر: وصراعٌ بينَ الحجى والأمانيْ... وهنا محل الشاهد في مقال اليوم؛ فبغض النظر عما يقصده شحاته فإنه يمكننا أن نستوحي من شطر بيته أن الخدمات الضرورية لم تكتمل في جدة؛ فهي في صراع بين الأماني المتطلعة لتلك الخدمات وبين عقلانية مبالَغ فيها، وخير دليل على ذلك (شرم أبحر) الذي يمتد بطولٍ (هوائيٍّ) يصل (10كم)، وقد يصل لأكثر من ذلك بالمقياس (الأرضي)؛ كون الشرم ذا تعرجات كثيرة. شرم أبحر يشكل خليجًا متوسطُ عرضِهِ (400م) يتفرع من البحر الأحمر في منطقة أبحُر شمال جدة ويتجه شرقًا حتى يكاد يصافح جبالها الشرقية، وعلى ضفته الجنوبية تقع أبحُر الجنوبية -التي تشكل جزءًا من جدة- بكثافتها السكانية والعمرانية وشاليهاتها، وعلى ضفته الشمالية تقع أبحُر الشمالية بحركتها السكانية والعمرانية الناهضة، خصوصًا وقد تبدَّى فيها برج المملكة (برج المِيْل) الذي سيغدو -حال الانتهاء منه- أطول برج في العالَم، ومَعلمًا من معالم جدة، ومقصدًا لسكانها وزائريها. وعلى هذا فنحن أمام فاصل مائي يشطر شمال جدة إلى شطرَين، ولا سبيل للتنقل بينهما إلا أن يقطع الفرد مسافة تصل أحيانًا إلى (20كم)، ليصل للشطر المقابل الذي يبعد عنه مسافة (400م) فقط. تأسيسًا على ما سبق فإن العجب يأخذ أقصى مداه من أمانة مدينة جدة التي تقف مستمتعةً بأرتال السيارات وهي تذرع جانبَي الشرم من الغرب للشرق، ومن الشرق للغرب، في حين إن الحل سهل وميسر لا يتطلب أكثر من (جسرَيْ وصْلٍ) على متن الشرم، أحدهما في مبدأ تفرعه من البحر والآخر في منتصفه، خصوصًا والزحف العمراني متسارع باتجاه الشمال، وقريبًا سيصبح شمال الشرم مدينة مترامية الأطراف، وقد تشكَّلت معالمها فعلاً. فهل تتطلب اللقيا بين شطرَي شمال جدة كل هذا العناء؟ أم أن في نفس الأمانة حاجة تريد أن تقضيها؟! أم أن تأخُّرها هذا جاء من كونها تخشى ألا تجد (قُصيبيًّا) يُخلِّد لحظاتِ تدشينها جسرَيها؟! إن كان ذاك فأعدها -بإذن الله- إن هي أنشَأَتِ الجسرَين وطلبتْ قصيدةَ تدشينٍ لأستجيبنَّ لها. [email protected]