جلْسة واحدة في مناسبة عزاء، تُنْبئكَ أنّ الناسَ يظنّون أنهم ضامنون لطول البقاء، أو على الأقلّ يحسبون الموت بعيدًا عنهم، لا قريبًا من شِراكِ نِعالِهم، وإن هم بالطبع إلّا يخْرُصون!. ترى في العزاء من «يُسُولِف» عن الدنيا فرِحًا ومختالا، وترى من يتواعد مع آخر للسفر معًا إلى الخارج للسياحة، وترى من يُجهّز لعقد صفقة تجارية، وترى من «يحُشّ» ويغتاب، وترى من ينتظر صلاة العِشاء لتأديتها ثمّ تناول العَشاء الذي غالبًا ما يكون رُز أبوحُمّص الشهيّ بلحم الخروف الطازج!. يروي الدكتور محمّد المنسي قنديل في كتابه «لحظة تاريخ» قصّة لُقمان بن عاد الذي عمّر طويلًا في اليمن منذ آلاف السنين، وبعد أن رأى الموت يتخطّف كلّ من حوله، دعا الله أن يمنحه عمرًا فوق كلّ عمر، فسمع في منامه صوتًا يخبره ألّا سبيل للخلود، لكن له طول بقاء، وله أن يختر بين بقاء سبع بقرات عفر في جبلٍ وعِر، أو بقاء سبع نوايات تمر مُستودعات في صخر، أو بقاء سبعة نسور يجدهم في الجبال ويحتضنهم هو، وكلّما هلك نسر أعقبه نسر، فاختار النسور، فماذا حصل له وللنسور من أقدار عجيبة؟. هاكم مُختصره: النسر الأول: أطعمه أجود اللحم، لكنه ابتلع مرّة قطعتيْن كبيرتين من اللحم دفعةً واحدة، فاختلج جسده ثمّ مات!. النسر الثاني: قصّ ريشه خوفًا عليه من خطر الطيران، وأسكنه على غصن شجرة، وذات مرّة أشار إليه بقطعة لحم، فألقى النسر نفسه ملهوفًا، فوقع على الأرض ميتًا بلا حراك!. النسر الثالث: أسكنه في قفص حرصًا عليه، وفي غيابه عنه لبعض الوقت تجمّع حول القفص المتطفلون من قوم لُقمان، كلٌ يحاول لمسه، حتى اختنق ومات!. النسر الرابع: سعت زوجة لُقمان في قتله غيْرةً منه!. النسر الخامس: اكتئب من حبسه ونسيْه للطيران، فأسقط نفسه من جبل، ومات مُنتحرًا!. النسر السادس: مرِض بما قد يصيب الطيور فمات!. النسر السابع: خنقه لُقمان بنفسه بعد أن أيقن أنّ الموت قدر حتمي لا مفرّ منه، وجلس بجانبه حتى مات هو بعده بقليل، ليبلغ الله أمره، ولن يبقى إلّا وجه الله ذو الجلال والإكرام!. وهنا أدرك شهرزاد الصباح، وقبل أن تسكت عن الكلام المباح، قالت إنه كفى بالموت واعظًا، وكفى بالاغترار عنه شرًا ومُصيبة، وأنّ التعامل الأفضل مع البقاء هو كما علّمنا نبيُّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، بأن نعمل لدنيانا كما لو كُنّا نعيش أبدًا، وبأن نعمل لآخرتنا كما لو كُنّا سنموت غدًا، ولا أحد يعلم متى يكون هذا الغد!. @T_algashgari [email protected]