يختزنُ الخاطرُ مَعِينًا لا ينْضبُ من ذكريات في هذه الحياة، اختار «علي» المهاجر من غانا، هذا المرتفع الشاهق، ليحكي قصة زوجته التي هجرته لقلة دخله؛ وتركت له ابنة يصفها في حديثه بقوله: «إنها عائلتي». «علي» شابٌّ كالربيع، شاهقٌ كالشمس، مزهرٌ حديثه، مشرقٌ كالشعاع.. خدم في عدة أعمال، وخاض جهادًا ضاريًا ضد العنصرية، رغم كل ذلك ظل إنسانًا هادئًا ناعمًا قادرًا على التواصل مع خالقه، فحصد نجاحًا في عمله، في مجتمع بطالته مرتفعة. حاولتُ مسايرة «علي» لكن حديثه يتلفّح بطقس الأمل، وهذا أحد أسباب تعلّمه اللغة العربية، بجانب الفرنسية والإنجليزية التي يتحدث بهما. يتابع بشغف قصته، وصلتُ إلى هذه البلد أبحث عن الرزق، وعن حياة أخرى بعيدة عن حياة زوجتي التي هجرتني، أحسستُ بوحدة عجيبة، وغضب عميق، فظَهَرَت عندي رغبة في العودة إلى بلدي غانا. لكن تذكَّرت العوز والحاجة، التي جعلتني أُغادر بلدي، فعَدَلْتُ عن ذلك، واكتفيتُ بتعلُّم اللغة العربية لتُفتح لي فرص للعمل.. لكن تخيَّلتُ أنني في عزلة من ذهب، وأن الله قدّر لي أن أتعلَّم لغة القرآن. يتابع، كنتُ أتمدَّد على السرير في هذه البلاد المباركة، وأُفكِّر جدِّيًا هل ستكون ميزة لي أن أتكلَّم العربية في مجتمع تحتل البطالة فيه أرقامًا مرتفعةً. ويتابع بأنين، الغربة أحيانًا تضعك في عزلة قهرية، فتمنحك رؤية مستقبلية بما تقدَّم من حياتك، وما تأخَّر.. الغربة تفتح عينيك على حقائق بديهية، فهي التي جعلتني أكتشف ما أكتشف في غربتي. لم تكن الشمس قد أشرقت بعد في ذلك المرتفع الشاهق.. لكني «سأمضي بدونها».. فركتُ عيني بظاهر كفي، وعلّقت على عبارته: «امضِ يا علي بدونها»، لكن الانكسار كان مرسومًا على ملامحه. ختم كلماته في هذا العالم قائلاً: المهاجرون بالملايين يسعون في طلب الرزق، من هؤلاء قليل مَن يحظى بمكانٍ آمن وعمل آمن.. وكنت أنا من الفائزين بهذه الهجرة والأمان الوظيفي، وعندما تسلّمت الإقامة في بلد يحلم المهاجر بها، رفعتها فرحًا.. لم أسأل الله لماذا أنا؟ بل عرفت أن الله اختارها لي. أدرتُ بعد ذلك روحي من جديد لمواجهة حياة لا تكف عن شد أطرافنا، ونظرتُ إلى السماء لعلّها تمنح القوة من جديد ل»علي»، ليجتاز شارعًا بلا نهاية، يحمل الرماد على كتفيه ويمضي من دونها. [email protected]