يأتي التخطيط والتنظيم كأهم عنصر من عناصر بناء المكان، وبدون التنظيم تحل الفوضى، وتضيع المقدرات، وتضعف المراقبة، بل إن غياب التنظيم دائمًا ما يكون ضد حركة النمو السليم، والتطور السريع الذي تنشده المجتمعات المتحضرة، وأضحت مشكلة ما يُسمَّى بالعشوائيات وبخاصة من أبرز المشكلات التي ظهرت على السطح، وعلى مستوى عدد من المدن الرئيسة في مملكتنا الغالية بدت حقيقة ملموسة لها تبعاتها الاقتصادية، وكذلك الاجتماعية؛ فإمارة منطقة مكةالمكرمة على سبيل المثال تعي جيدًا أن التطور الهائل الذي تشهده مدينة جدة في شتى المجالات بات لا يتلاءم ووجود مثل تلك العشوائيات المنتشرة بشكل لافت في المدينة، ولا تتماشى مع مكانة المملكة الاقتصادية وغير اللائقة للحياة الإنسانية، وتدرك جيداً أنه لا بد من وضع خطط قصيرة وطويلة الأجل لتطوير المناطق العشوائية مع الحاجة كذلك لتأسيس شركة مساهمة لتطوير تلك العشوائيات بجدة على غرار شركة المدينةالمنورة (للتطوير والتنمية) لتطوير المناطق العشوائية. إن تطوير العشوائيات ليتطلب أهم ما يتطلب هو سرعة اتخاذ بعض القرارات، وسرعة تنفيذ الإجراءات المطلوبة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لا سيما وأن العشوائيات آفة مرضية سينتج عنها مشكلات يكون من الصعب حلها، وهي ظاهرة كالسرطان إذا لم يتم علاجها بشكل سريع وفي الوقت المناسب. والعشوائيات في مدينة كمدينة جدة تصل إلى ما يقارب من 60 حيًّا عشوائيًّا بلغت مساحتها حسب الدراسة التي أجراها عدد من الأكاديميين 53 كم! فتكون بذلك هذه العشوائيات من أكثر المشكلات التي تواجه المدينة وتطور بيئتها الحضرية، كيف لا؟ وهي أراضٍ تم الاستيلاء عليها بوضع اليد، أو بشرائها بسعر رخيص، والبناء عليها في أماكن متفرقة في أنحاء مدينة جدة، وقد تكون في أماكن ذات خطورة عالية كمجاري السيول، وبطون الأودية وغيرهما، نشأت بسبب الضعف الرقابي للبلدية والجهات الحكومية الأخرى، وبسبب دوافع اقتصادية وثقافية وتحقيقها فوائد مالية مجزية للمتعاملين بها، والمباني في العشوائيات لا تخضع للأسس التخطيطية، وإنما نشأت بدون تقسيم صحيح سليم، بل بنيت على أملاك عامة أو أملاك خاصة وباجتهادات وتنفيذ فردي عشوائي بعضها بتراخيص والأكثر بدون تراخيص. وأمر الخدمات في العشوائيات كذلك لا يخضع لأسس ومعايير التخطيط، وهي مناطق لا تكتمل بها الخدمات والمرافق الضرورية إذ من نتائج ذلك ارتباك حركة المركبات المرورية في العشوائيات، والإشكاليات في وصول سيارات الشرطة والجوازات، أو آليات الدفاع المدني، وسيارات الإسعاف ونحو ذلك. في سبيل مباشرة الحوادث وإنقاذ الأرواح. واللافت في الأمر أن كثيرًا من الدراسات والبحوث تشير صراحة إلى استفحال الظاهرة ومن ذلك أن المجلس البلدي قد أشار إلى أن 26851 منزلاً مهددًا بالانهيار، ودراسة الأكاديميين بجامعة الملك عبدالعزيز تشير إلى أن أكثر من 43% من سكان جدة يسكنون في مناطق العشوائيات وهم من الفقراء والأقل تعليمًا ومعظمهم من غير السعوديين (متخلّفين). وهناك دراسات اجتماعية جادّة قد حذرت من تنامي العشوائيات لما لها من تأثير على زيادة نسبة الجرائم، وأشارت واحدة من تلك الدراسات إلى أن العشوائيات تُعدُّ قنابل موقوتة قد تتفجر في أي لحظة، وأن الشباب والمراهقين بسبب ذلك يجدون أنفسهم ضحايا للمخدرات وللجريمة بشكل عام، إذ إن هناك 76% من إجمالي الجرائم وقعت داخل المناطق العشوائية. ولو أردنا تفصيلاً بإحصائيات خلصت إليها العديد من الدراسات فإننا نجد -على سبيل المثال- أن أحد الأحياء العشوائية رصد به حالات تناول المسكر ما نسبته 93%. والمخدرات في العشوائيات بلغت 88%، والجرائم الأخرى كترويج المخدرات، وحيازة الأسلحة، وإطلاق النار، والشعوذة والدجل 100%. العشوائيات كانت -ولاتزال- تمثل هاجسًا لقاطني مدينة جدة، وعندما عيّن الأمير خالد الفيصل أميرًا لمنطقة مكةالمكرمة كان ملف العشوائيات من أولويات عمل سموه في المنطقة، وصدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين على مشروع معالجة وتطوير الأحياء العشوائية، وتصحيح أوضاع المتخلّفين، ومن تلك المشروعات مشروع قصر خزام باكورة مشروعات تطوير الأحياء العشوائية حيث يشمل أحياء النزلة اليمانية، السبيل والبلد، والقريات، ناهيك عن مشروع الرويس. توقفت مشروعات التطوير في جميع الأحياء وواجهت عدة عراقيل منها على سبيل المثال كثرة شكاوى قاطني تلك الأحياء للمقام السامي من عدم توفر السكن البديل، والتثمين العادل، ناهيك عن إيقاف التمويل المالي للمشروعات العقارية من قبل البنوك، كبر مساحة المنطقة على المطورين لتنفيذ مشروعات العشوائيات، وكان يجب في رأيي الشخصي تقسيم مساحة المناطق العشوائية بمدينة جدة، بحيث لا تزيد مساحة أي منطقة عشوائية يراد تطويرها عن مئتي ألف متر لمطور واحد، بحيث أن لا تتجاوز قيمة الاستثمار عن ألف مليون ريال، فلا يوجد أي مطوّر سعودي يستطيع تطوير 3 ملايين أو مليون متر، كذلك لا بد قبل البدء كان يجب الانتهاء من توفير السكن البديل للعقارات المنزوعة، والتقدير العادل لسعر العقارات المنزوعة، أيضًا قيام الدولة ببناء البنى التحتية، أو قيام الدولة بتنفيذ مشروعات العشوائيات. ثمة دول تغلَّبت على العشوائيات لديها كالبرازيل وتركيا وغيرهما، وكان أن أحدث التطوير فيها نقلة نوعية تطويرية لمناطقها العشوائية، ولعموم المناطق الأخرى فيها. نأمل من أمير منطقة مكةالمكرمة دعمه الشخصي لملف العشوائيات لما له من أهمية اجتماعية تعيها الجهات الأمنية، ناهيك عن تطوير المكان وبناء الإنسان. [email protected]