مساء يوم الثلاثاء 25/4/1435ه كان في نادينا الأدبي أمسية شعرية، للشاعر الأديب محمد جبر الحربي، الشاعر الذي نبغ نجمه في الثمانينيات الميلادية حينما ظهرت الحداثة الأدبية في بلادنا، هذه الحداثة التي كان لها في نادينا الأدبي والثقافي في جدة نصيب، أيام كان النادي حركته نشطة، والمشرفون عليه يقبلون الرأي وإن خالف رؤاهم ومنظورهم، وأنا أتجه للنادي لحضور هذه الأمسية تذكرت يوم أن قرر النادي تكريم الشاعر محمد الثبيتي - رحمه الله - بمناسبة صدور ديوانه «التضاريس» حين احتشد النادي بمن كانوا يعارضون حداثة الشعر بالتكفير، مما جعل النادي يومها يلغي الاحتفال، ويطلب أحد الأساتذة بإلقاء محاضرة تملأ زمن الاحتفال، لينفض الجمع، ولا أزال أذكر صدور كتب تكفر كل أديب قبل هذه الحداثة أو شارك فيها، وصدرت كتب ومقالات تهجو الحداثة، والحداثيين، ولأن الحداثة في الغرب والشرق إنما شغلت زمنًا ثم تطورت لما بعد الحداثة إلا أنه لا يزال عندنا من لم يتجاوز ذاك الزمان، وبقي في خندق المعارضين لها حتى هذه اللحظة وهؤلاء دومًا لا يعيشون إلا في الماضي ولا يغادرونه إلا بعد ألا يبقى فيه سواهم، وكل زمن حاضر له ماضٍ، وهم بعشق منقطع النظير يضمون الأزمنة الماضية إلى بعضها حبًا ليعيشوا فيها وكراهة للراهن من الزمان، وكل زمن آت، حتى أن أي تطوير للحياة في هذا الوطن يصطدم بفكر هؤلاء، ويرون في كل تجديد عملية آثمة يجب أن تحارب، وقد عرفت شاعرنا الراحل محمد الثبيتي - رحمه الله - في السنوات الأخيرة من حياته وجالسته وحاورته، فرأيت فيه ابن الوطن الذي يحمل لهذا الوطن الكثير من الوفاء، يتمنى أن يخدمه بكل ما امتلك حتى ولو كانت روحه، ويتوق لعزة الوطن وأهله وكرامته، لا تخضع فيه الجباه إلا لخالقها، وسلوكه ممن يقتدى به، وشاعرنا الذي أكتب هذا المقال عنه احتفاء به عرفته من خلال نتاجه الشعري والنثري، فشبكة الانترنت لها في أعناقنا فضل فعن طريقها أصبحنا نتابع جل من هم في الساحة أدباء ومفكرين وعلماء، فكلهم له مواقع عليها نعود إليهم بين الحين والآخر، ومنذ أن كان لشاعرنا محمد جبر الحربي موقع وأنا أتابع ما يكتب شعرًا ونثرًا، وأنا ممن لم يعجب كثيرًا بشعر التفعيلة، أما شعر النثر فلا اعترف به شعرًا، إلا عند أديب ارتقى نثره ليكون شعرًا، وهم قلة بين هؤلاء الذين أصبحوا يتسابقون على اللقب يمنحونه لأنفسهم (شاعرًا) وهم لم يبلغوا حد أن يكونوا ناثرين بلغاء، ولكن شعر الأستاذ محمد جبر الحربي ما أن تقرأه أو تسمعه حتى تسري إليك، موسيقاه فإذا أنت طرب لما تسمع، يضمنه مقولات عربية لا تفنى، ومواقف وطنية عربية جلية، ففي قصيدته الشهيرة «جاءت خديجة» توليد لمعانٍ جديدة لألفاظ فصحى قديمة، وتكثيف صور تمنح للألفاظ رمزيتها، أليس هو القائل: وضعت يديها فوق نافذة الكلام وأسرجت خيلًا لعنق الشمس واحتفلت بميلاد الحروف وأطلقت عصفورها للبوح في طرق السماء وأليس هو القائل: لا تحزني يا حرة عربية ملكت زمام منيتي فلقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت ولم يحضر أحد فالشعراء النوادر حتى في شعر الحداثة يجيدون، ويملأون الدنيا قطعًا رائعة تهز المشاعر، وتضيء للنفوس إذا أظلم ما حولها، بموسيقى رائعة تشعل النفوس طربًا. وهكذا كانت أمسيتنا في النادي تعيد إلينا الفرح من جديد، نستمع لشاعر نفسه تمتلئ بحب الوطن، ولناقد كبير هو أستاذنا الدكتور سعيد السريحي، الذي تحدث إلينا عن تجربة شاعرنا، وعرّج على أدب الحداثة، والذي كان هو أحد رموزه وكان ما طرحه في ورقته عن هذه التجربة بيانًا وإيضاحًا لها، تابعناه فيه وشعرنا بأن ما كان الموقف من الحداثة- آن- ظهورها إلا أمرًا مفتعلًا، ممن لا إبداع لهم، ولا يستطيعونه، فما كان لهم إلا التشكيك في نوايا الخلق، والبحث عن معايب هم أهلها، يبعدونها عن أنفسهم باتهام الغير بها، وانكشف المستور من أحوالهم مع مرور الزمان، حتى لم يعد أحد يشغله أمرهم، ولا ما يثيرونه من شغب بين الحين والآخر، وهو بضاعتهم التي لا يحسنون غيرها. وقد كانت أمسيتنا في النادي في اليوم المشار إليه عودة بهجة تشعل الحوار في النادي وبين الحاضرين فعالياته، فالأفكار الحية المتجددة تجتذب من البشر من كانت ثقافتهم راقية، أما الأفكار التي تولد ميتة، وما أكثرها في زماننا فتضفي على الساحة ركودًا لا حركة بعده، وعلى الذين يلون الأنشطة الثقافية ويشرفون عليها أن يبحثوا عن المبدعين الذين يطرحون الأفكار المتجددة دائما؛ ليعطوهم المساحة الأكبر في سائر فعاليات هذه الأنشطة؛ لتحيا بها نفوس أحبطت من كثر ما تداول الموتى فكرًا في ساحتنا الثقافية والأدبية والعلمية موات الأفكار يحيونها يوم أن أعرض عنها الناس فركدت كل ساحتنا، ولعلنا ندرك هذا اليوم ففيه الخير لنا، فلعلنا فاعلون والله ولي التوفيق. [email protected]