في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر شوال لعام أربع وثلاثين وأربعمائة بعد الألف، توفي إلى رحمة الله فضيلة العالم الشيخ الدكتور/ عبدالملك بن عبد الله بن دهيش رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وقد تمت الصلاة عليه ودفنه في يوم الجمعة الموافق 23/10/ 1434ه في مكةالمكرمة، في كل حقبة وزمن يظهر رجال يُسخِّرون حياتهم ومواهبهم وإمكاناتهم لخدمة الآخرين ونفعهم، ويتركون مآثر وأعمال قلّما يجود بها غيرهم. وتعتبر وفاة الشيخ عبدالملك -رحمه الله- خسارة كبيرة للعالم الإسلامي والعربي والسعودي، ذلك لأن علمه وبحوثه وإنجازاته تجاوزت ما هو محلي وعربي إلى العالم الإسلامي. إن اهتمامات وبحوث الشيخ - رحمه الله - بمكة وحدودها والمشاعر وحدودها والصفا والمروة وحدودها، وما ترجمه من كتب مشهورة في هذا المجال، وهي على سبيل المثال: (1) الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به. (2) حدود المشاعر المقدسة (منى - مزدلفة - عرفات). (3) حدود الصفا والمروة التوسعة الحديثة دراسة تاريخية فقهية. قد كانت إسهامات فارقة ومؤثرة حتى في قرارات تحديد الحدود الشرعية لمكة وحدود السعي بين الصفا والمروة، حيث بنى اجتهاداته على المنهج والبحث العلمي المُوثّق في تحديد مكةالمكرمة من قراءات متعمقة لأمهات الكتب، واطلاع ميداني على المشاعر، إلى النتائج والمقترحات، التي عمّت فوائدها وأهميتها العالم الإسلامي، وهذا ما سُجّل وسوف يُسجّل للعالِم الشيخ عبدالملك في موازين حسناته وتاريخه المجيد - رحمه الله. وللعالِم الشيخ عبدالملك دراسات كثيرة وهامة قام بتحقيقها، ومن أهمها في مجال التفسير والأحاديث والفقه: (1) كتاب "رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز" للشيخ الرسعني، في ثمانية أجزاء. (2) كتاب "الأحاديث المختارة" للمقدسي، في ثلاثة عشر مجلدًا. (3) كتاب "معونة أولي النهي شرح المنتهي" لابن النجار الفتوحي الحنبلي، في ثلاثة عشر مجلدًا. وهذه الأسفار العلمية المميزة جعلت الباحثين وطلاب العلم لا يستغنون عنها في أبحاثهم، وما كان للشيخ أن يُؤلِّف ويبحث ويُخرج مثل هذه الآثار العظيمة لولا فضل من الله ثم توفر الإعداد العلمي والأخلاقي، وما حظي به من مدرسة العلم والأدب والتربية في منزله وفي بلده، والذين تتلمذ على يدهم والمدارس والجامعة التي تخرج فيها، ولولا وجود بيئة أسرية محفزة ومشجعة ومربية على العلم وفضله والاستزادة منه، وقد تُرجم ذلك في مكتبة الشيخ - رحمه الله - الثرية والغنية بأمهات الكتب والمخطوطات في منزله التي أصبحت منهلًا عذبًا للباحثين والطلاب يفتحها الشيخ بكل إمكاناتها وبكرمٍ وسخاء وبما وفره فيها من جو علمي وخدمي على حسابه الخاص، جعل الله ذلك في ميزان حسناته. ولو تصفحنا سجل الشيخ عبدالملك الإداري ومآثره الشخصية لاحتجنا إلى مجلد في هذا الخصوص، ولكن لمقتضيات الحال والزمان أُوجز ذلك في هذه الأسطر: فقد عمل في سلك التعليم وسلك القضاء وفي شؤون الحرمين، فقد تسلم معالي الشيخ عبدالملك - رحمه الله - الرئاسة العامة لتعليم البنات بالمملكة فترة ليست بسيطة من الزمن، وقد تطور في عهده تعليم البنات -بطبيعة الحال بدعم ورعاية وتشجيع من لدن الحكومة الرشيدة- تطورًا كميًا وكيفيًا، فلم يستسلم لروتين عقيم، أو رؤية قاصرة في التطوير، بل بفضل خبرته وحنكته وقيادته وبُعد نظره افتُتحت المزيد من المدارس والكليات في كل مدينة وقرية، وقد كان اهتمامه واضحًا بالعناية بالمباني الحكومية المدرسية حتى أصبحت نموذجية بل تجاوزت تلك المناظرة لها لدى البنين، أما على المستوى النوعي فقد فتح المجال واتسعت دائرة الفرص لبنات هذا البلد لمزيد من العلم إلى أعلى المستويات، وكذلك احتلال المكانة اللائقة بهن تدريسيًا وإدارة وقيادة، ويشهد الكثير- والناس شهود الله في الأرض - أن معاليه كان يفتح بابه وقلبه وعقله لكل طلب وشكوى من أي مواطن أو مواطنة، ولا يخرج إلا وحاجته مقضية، جعل الله ذلك في ميزان حسناته، وللحق والتاريخ فقد كان كاتب هذه الأسطر من حظي بمثل هذه الميزة من معاليه - رحمه الله - حيث تشفعتُ لمعلمة عينت في قرية نائية ووالدها كان يحتضر من مرض عضال ولبى الطلب فورًا، فكان ذلك فرجًا لها ولأسرتها بعد الله، ولذلك ولمثل هذه الخصال الإدارية والإنسانية النادرة، التي توفرت في الشيخ عبدالملك - رحمه الله- نتمنى أن يكون ذلك نبراسًا ودرسًا يستفيد منه من مُكن من منصب ومصلحة ومن يريد النجاح في الدنيا والآخرة، وهذا يتطابق مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إن لله عبادًا اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم للخير وحبب الخير إليهم، أولئك الناجون من عذاب يوم القيامة)، وأحسب أن الشيخ كان أحدهم، وقد عرفت فضيلته شخصيًا في كرمه وحبه لفعل الخير والتسامح مع من يقصده أو هو من يبادر بذلك، ومهما أسجل أو أكتب من مآثر الشيخ العالم المدرسة فلن يكفي في هذه المناسبة، ولكنني أختتم بالدعاء لمعالي الشيخ العالم ابن هذا البلد البار الوفي المعطاء عبدالملك بن عبدالله بن دهيش، نسأل الله أن يتغمده برحمته وأن يجزيه خير الجزاء على ما قام به وما تركه من أعمال جليلة على مستوى العالم الإسلامي والوطني، وعزائي الشخصي إلى إخوة الفقيد الكرام، وعلى رأسهم أخونا وحبيبنا العالم المؤرخ الأستاذ الدكتور/ عبداللطيف بن عبدالله بن دهيش، وأبناءه الفضلاء وهم: عبدالمحسن، ومحمد، وسامي، وهشام، ويوسف، وفيصل، ومنيرة، وبقية الأسرة الفاضلة، وأبناء مكةالمكرمة والبلد الكريم، (إنا لله وإنا اليه راجعون).