أشاد عدد من الأدباء والمثقفين بخطوة النادي الأدبي الثقافي بجدة في اختياره للناقد الراحل عبدالله أحمد عبدالجبار ليكون شخصيته المكرمة في ملتقى قراءة النص الثاني عشر الذي ستنطلق فعالياته اليوم.. حيث يأتي هذا التكريم متناغمًا مع محور الملتقى «التحديث النقدي في المملكة العربية السعودية»، وما قدمه الراحل عبدالجبار في مسيرته فيما يخص النقد على وجه التحديد، لينال لقب «شيخ النقاد» نظير اجتهاداته الكبيرة في هذا المجال والتي أخرجت النقد -وقتذاك- من مرحلة الانطباعية إلى المنهجية العلمية.. ومن يتأمل سيرة الراحل عبدالجبار سيقف عند محطة مولده بحي سوق الليل المجاور للمسجد الحرام في مكةالمكرمة عام 1919م، هذا المولد له دلالته الكبيرة فيما سعى عبدالجبار لاحقا للتزود بالمعرفة، ومحبة العلم، فمضى في هذه المسيرة الطويلة ليكون أحد أوائل حملة الشهادات الجامعية بالمملكة كلية دار العلوم بالقاهرة، وينفتح الطريق أمامه أمام التربية والتعليم والثقافة، فجمع بين كونه مربيا فاضلا، ومثقفا واعيا، حتى أصبح بحق أحد الرموز الثقافية على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان، كما أنه أحد كبار الرواد في المجال التربوي والفكري السعودي. حين عاد عبدالجبار من كلية دار العلوم بالقاهرة إلى مكةالمكرمة عمل مدرسا بالمعهد العلمي السعودي ومدرسة تحضير البعثات بمكة ثم أصبح مديرا للمعهد عام 1366ه فمديرا للبعثات السعودية بمصر عام 1369ه كما عمل أستاذا بمعهد الدراسات العربية العالية في جامعة الدول العربية بالقاهرة ليترك بعد ذلك عمله الوظيفي ويشتغل بالأدب والنقد والبحث والتأليف والكتابة للصحف حتى توجه إلى بريطانيا عام 1389ه وتولى تأسيس وإدارة أول مدرسة عربية تابعة للسفارة السعودية بلندن وفي عام 1398ه تم تعيينه مستشارا بجامعة الملك عبدالعزيز ثم آثر التفرغ للفكر والأدب وأقام ردحا من الزمن في القاهرة وكان منزله مقصدا للمثقفين والأدباء السعوديين والمصريين العرب.. وخلال مسيرته رفد الراحل عبدالجبار المكتبة العربية بالكثير من مؤلفاته الرصينة، ففي مجال النقد قدم كتابه ذائع الصيت «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» عام 1959م بالقاهرة وهو عبارة عن محاضرات ألقاها على طلاب قسم الدراسات الأدبية واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية بجامعة الدول العربية، وثم كتاب «قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي»، اشترك في تأليفه مع الدكتور المصري عبدالمنعم خفاجي، وطبع بالقاهرة عام 1958م، إلى جانب الكثير من الأعمال الأدبية الأخرى ومنها أعماله في مجال القصة؛ مثل «أمي» و«ساعي البريد»، وفي المسرح قدم مسرحيته «الشياطين الخرس»، كما قدم أعمالا في الإذاعة أهمها «العم سحتوت»، إضافة إلى عشرات المقالات والبحوث التي نشرها في صحف الحجاز ومصر. لتوافيه المنية يوم السبت 4 جمادى الآخرة 1432ه الموافق 7 مايو 2011م وعن عمر ناهز الأربعة والتسعين عاما في منزله بإسكان الأمير فواز بجدة، وقد صلي عليه في مكةالمكرمة عصر يوم السبت ودفن في مقابر المعلاة.. بكل هذه السيرة الزاخرة تصعد روح الراحل عبدالجبار إلى منصة التكريم اليوم، تسبقها جملة من الآراء المشيدة بما قدمه خلال حياته، في سياق هذا الاستطلاع.. مكتشف المواهب بداية يقول الدكتور عباس طاشكندي أمين عام موسوعة مكة والمدينة والأستاذ في علم المكتبات: الأستاذ عبدالله عبدالجبار -رحمه الله- بالنسبة لي يعد بمثابة الوالد، والصلة الأبوية إلى جانب الصلة الفكرية كانت مستمرة معه، وهو رجل كان له تأثير على معظم الشباب الدارسين في فترة الخمسينات والستينات، وكنا ننظر له كراع لنا، وخصوصا في الوقت الذي كنا ندرس فيه كان هو مراقبا للبعثات في مصر، وكان معظم المبتعثين يذهبون لمصر، وكان يرعانا كطلاب، وأيضا قبل مصر كان هو في تحضير البعثات، إذ تتلمذ على يده من كان قبلنا، إلى جانب كونه ناقدا كبيرا، وكتابه «التيارات الأدبية» في جزأين سواء الشعر أو النثر كتاب مؤثر، بجانب كتب أخرى. ويضيف طاشكندي: كان يقول في قالب رمزي قصصي روائي ما لا يستطيع الآخرين أن يقولوه كالشياطين الخرس، ومسرحية أمي، وعدد من الكتب، وكتب عن الأدب في الحجاز هو ومحمد عبدالمنعم خفاجي، وهو من الأعمال الكلاسيكية النادرة، وشخص فيها التاريخ، إلى جانب هذا كله الأستاذ عبدالله عبدالجبار هو رجل منهجي من خلال منهجة الأحداث الأدبية، صاحب منهجية علمية حتى عندما كتب التيارات الأدبية جزء من نصف كتابه الأول كان في البنية الأساسية، إذ تكلم عن المكتبات والصحافة والطباعة، إذ لم يدخل بشكل مباشر على الأدب في الحجاز، أي بمعنى أنه تناول الخلفيات الثقافية التي تجعل نقاشه في موضوع التيارات الأدبية هو نقاش مبني على مقدمة تعطي صورة كاملة عن الوضع الذي كان في الحجاز. ويتابع طاشكندي حديثه معددا مزايا شخصية الراحل عبدالجبار بقوله: وهو رجل فاضل، كان رجلا يتحلى بخلق رفيع جدا، وحساسية أيضا حتى توفاه الله وهو حاضر الذهن، سريع البديهة، قارئ من الدرجة الأولى للأدب المكتوب باللغات الأخرى، وأيضا كان حساسا؛ إذ إنه أحيانا ما يقف عند لوحة فنية ويتكلم عنها حديث العارف، وفي بعض اللوحات التي كان يحتفظ بصور منها كنت أسأله مستغربا من تصرفه ذلك، إلا أنه كان يتحدث عن اللوحة بخلفية فنان، ومرة سألته عن الشاعر بدر شاكر السياب، وكنت لا استمرئ شعره، إلا أنه قال لي إن الشاعر قوي بخلفيته الثقافية، وبدر شاكر السياب رجل كون خلفية ثقافية لذلك كان قادرا على التجديد الشعري بناء على هذه الخلفية، بالإضافة إلى ما نجده في أمل دنقل وهو مكتشف هذه الشخصية، إذ إنه ومن خلال مجلس عبدالله عبدالجبار في مصر استطاع دنقل أن يصبح شخصية معروفة، فضلا عن أنه اكتشف الكثير من الأسماء اللامعة من خارج حدود المملكة، كل ذلك كان عبر مجلسه في مصر، والذي كان يضم نخبة من المفكرين الذين كانوا يترددون على مجلسه في مصر، وأقرانه الذين عاشوا في تلك الفترة هم على وزن حمزة شحاتة، والسيد عبيد مدني، وأدباؤنا الكبار إلى جانب الشباب الكبار وأنا منهم إذ كانت فرصة لنا أن نتعرف عن قرب بمثل هذه القامات الكبيرة، ولم يمر أديب سعودي أو مصري معروف إلا كان قد مر على مجلس الأستاذ عبدالله عبدالجبار مثل الأديب حمد الجاسر وغيره، وقد كرمته الدولة بجائزة الدولة التقديرية للأدب وكرمته الجنادرية، وأعطي أكبر الأوسمة وهو وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، والرجل قامة، والدولة تكرم وتحترم رجالاتها، وأنا كشخص افتقدته كثيرا إذ كانت الصلة الأبوية التي كانت تربطني به قوية جدا. وأتذكر أنني عندما كنت أغيب عنه بعض الشيء كان يرسل لي مستغربا سبب انقطاعي عنه، وهو كان يتفقدني وهو في حاجة إلى أن أتفقده. أكثر من مفكر أما الدكتور عاصم حمدان عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز فتوجه بشكره في مستهل حديثه إلى النادي الأدبي الثقافي بجدة على هذه البادرة، ماضيا إلى القول: إني ألخص شخصية عبدالله عبدالجبار في ما يلي؛ أولا أنه رجل مربي، قد عمل رئيسا لدار البعثات في مكةالمكرمة، والتي تعتبر أول ثانوية في مكةالمكرمة، ثم كان له دور آخر في متابعة الطلاب السعوديين في القاهرة، في الفترة التي لم يعرف فيها الابتعاث خارج البلاد العربية كانت مصر ملتقى للطلاب العرب في جميع التخصصات. ثانيا أن النقد قبل عبدالله عبدالجبار يقترب إلى الانطباعية -إن صح التعبير- والذي قنن النقد في الجزيرة العربية بالذات هو عبدالله عبدالجبار، وإصداراته تشهد أنه قام بنقل النقد من مرحلته الانطباعية إلى مرحلة علمية نقدية منهجية، ونلاحظ أن عبدالله عبدالجبار لم يتحدث عن كلاسيكية غربية أو رومانسية غربية، بل كان يتحدث عن كلاسيكية موطنة في بيئة النقد العربي، وهذه نقطة مهمة جدا أنه استطاع أن يستخلص من المفاهيم النقدية الغربية ما يصلح للأدب السعودي والعربي، وأنا بدوري أرى أن عبدالجبار هو بمثابة محمد مندور في مصر، ومحمد مندور نقل النقد العربي إلى مرحلة علمية كعبدالجبار: ثالثا، المتأمل لكتابة عبدالجبار النقدية نجده يكتب بأدوات النقد من خلال التقرير، وغيره من الأدوات بروح علمية عالية، ومن يقرأ كتاباته يتوصل إلى أنه لم يكن شخصية عادية بل كان شخصية مرموقة، وكتابه «الغزو الفكري» لا يتكلم بلغة إنشائية أو عاطفية وهو يتكلم بلغة علمية وهو عبارة عن محاضرة ألقاها في مؤتمر الأدباء العرب عام 1964م. ويتابع الدكتور عاصم حديثه مضيفا: إذن نحن أمام شخصية متعددة المواهب ومعترف بها عربيا، ومنتداه الأدبي في مصر يشهد له بذلك، وإن صح التعبير فهو شخصية خرجت من الدائرة المحلية إلى الدائرة الأكثر انتشارا ونفوذا وهي الدائرة العربية والعالمية، ونلاحظ أن عبدالجبار يجيد الإنجليزية، ومن يرجع إلى بعض كتبه نلاحظ أنه استعان ببعض المصادر باللغة الإنجليزية في الوقت كان فيه الرجوع إلى اللغة الإنجليزية من عموم الناس شيء شبه مستحيل، وما أجمل قولي به أن «عبدالله عبدالجبار أقل من كلمة ناقد وأكثر من كلمة مفكر». صاحب المشروع المنهجي ويشارك الناقد حسين بافقيه مدير عام الأندية الأدبية بقوله: هذه ما درجت عليه عادة النادي الأدبي بجدة في كل ملتقى نص أن تكرم شخصية أدبية سعودية من الرواد الذين شاركوا في النهضة الأدبية والثقافية في بلادنا، وبلا شك الناقد الكبير عبدالله عبدالجبار - رحمه الله - من الأسماء المهمة في خطابنا الثقافي والنقدي، ويكفي أنه هو صاحب أول مشروع نقدي منهجي في المملكة وربما في الجزيرة العربية، ويتبدى ذلك من خلال كتابه «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية»، فشكرا لنادي جدة الأدبي. وكم كنت أتمنى أن يكون ملتقى قراءة النص بكامله بورقاته كلها عن عبدالله عبدالجبار لأنه مادة ضخمة وكبيرة ومتنوع النشاط ومتعدد الأطروحات، ومرب كبير ومن أوائل السعوديين الذين حصلوا على الشهادات الجامعية، قاص وكاتب مسرحية وكاتب مقالة من الطراز الرفيع ومؤرخ ممتاز وناقد أدبي كبير صاحب رسالة ثقافية كبيرة. ونشكر النادي، وأتمنى من نادي جدة أو أي ناد آخر أن تخصص ندوات بكاملها عن رواد الأدب والثقافة ك-»عبدالله عبدالجبار، حمد الجاسر، عبدالله بن خميس، محمد السنوسي» وغيرهم، فبلادنا تزخر بالأسماء الكبيرة. ولكن على العموم شكرا لنادي جدة الأدبي. تحفيز على الدراسة الدكتورة فاطمة عبدالجبار عضوة التدريس بجامعة أم القرى كشفت عن فحوى مشاركتها في الملتقى بقولها: سأتحدث في ملتقى قراءة النص عن الجانب الأسري لخالي وأبي الروحي الأديب الراحل عبدالله عبدالجبار -رحمه الله-، ورغم قامته الأدبية الكبيرة إلا أن تكريمه جاء متأخرا في جنادرية 21 بعض الشيء، ورغم هذا كله لا يسعنا إلا أن نشكر القائمين على الجنادرية في تلك اللفتة الكريمة منهم، وكذلك نادي جدة الأدبي والذي يعتبر ذو دور ريادي في تكريم الرواد، وهي بادرة نشكره عليها، وأنا اعتبره أبي ومعلمي الأول وهو من شجعني على دراسة الأدب السعودي في مرحلة الماجستير، والتي تناولت شخصية الأديب الراحل «أحمد قنديل حياته وشعره»، وكانت بيننا لقاءات فكرية كثيرة، ودائما كنت ما أزوره عندما كان في جدة. كان بيننا لقاء فكري كبير إذ كنا نتحاور ونتناقش في الموضوعات الأدبية ونتجاذب الشعر بأن يذكر بيت أعجبه وأذكر بيتا أعجبني.