1 «ولكن» حين تغيب الشعوب عن قرارها، والمشاركة في تحديد مصيرها ومستقبلها؛ تُساق إلى حتفها دون سابق إنذار؛ وذلك عندما تجد نفسها أمام حرب ضروس لم تُستأذن في خوضها، ولم يُطلب منها يوما إبداء الرأي فيها، ولا بذل المشورة في أهدافها الظاهرة والمضمرة، بل لم تقرأ خلفياتها، ولا أسبابها، ومنطلقات أصحابها. فهل يعلم الشعب مصيره ومكاسبه أو خسائره أمام شعارات الاستفزاز والتحريش الذي يمارسه من يُسمون بالقاعدة أو حلفائهم؟ ألا يقرر المنطق السليم: أن المرء إن كان لا بد له من المشاركة في الأمر المعيَّن، فليكن ذلك بعلمه وتمام تصوره، إضافة لمبدأ المساواة بين الأطراف في الربح والخسارة؟ وأما الاستئثار بالمنافع إن أتت، وقطف الثمار إن أينعت دون الشعب وهو الضحية؛ فذلك من الجور والتطفيف في الميزان! فأي مستقبل ينتظر أزواد في شمال مالي وأبناءه المشتتين في البقاع ومخيمات اللاجئين في ظل هذا الجور؟! 2 إن هذه المنطقة تعاني من التهميش حِقبا متتالية، وتشكو من قلة المعين والناصر منذ الاستقلال حتى اللحظة، فلا مراكز صحية تسد حاجة أهلها، ولا مدارس قائمة تُحفِّز على التعليم، ولا بنية تحتية صلبة، وليس شيء من ذلك بمعجز مقارنة بالجنوب المالي، فأي أمر تتباكى عليه حكومة مالي حتى يستردوه؟ أي تركة خلفوها حتى يحركوا مشاعر العالم للتدخل في إنقاذها؟ أم أنها سلعة غالية يعسر التنازل عنها، وورقة ثمينة تقدمها قربانا للعالمين لتأكل بها بينما يقبع أهلها تحت خط الفقر؟ ألا تخجل «مالي» من نفسها حين تحكي مقاطع الفيديو، أو تعكس العدسات قصة معاناة البشر، وحجم التهميش في ثلثي الأرض التي تحت حكمها؟! ولا زال الظلم يتتابع على شعوب هذه المنطقة قديما وحديثا، مما فرض على كثير من أهلها الفرار للدول المجاورة أو غيرها، مخَلّفين وراءهم آلاما وأحزانا من ابن فقدوه هناك؛ لأنه لم يجد الدواء، أو شيخ يعاني من مرارة القهر والضيم، أو امرأة طاعنة في السن تجاعيد وجهها تروي قصة تعجز الكلمات عن ذكرها! 3 ومن وحي هذه المآسي والنكبات التي لم تنقطع يوما، وبين نابيْ مجموعتين مغرقتين في الجشع تبحثان عن مصالحهما الذاتية في الجملة، إحداهما تحتمي بالدين وسلطته، واستغلال عاطفة الجماهير، والأخرى تتذرع بالحكم السياسي وسطوته الذي لم يكن يوما عادلا حين جعل تلك المنطقة في الحكم المالي! من بين تلكم الوجوه الشاحبة التي طالها حر الهجير في تلك الصحراء القاحلة، وألم البغي وعذابات السنين = يمكن أن يقال: إن هذه المنطقة أحوج ما تكون لالتماس سُبل أقل مخاطر في الوصول إلى الهدف المنشود، تؤلف بين أطياف الشعب الأزوادي كافة على أنهم أبناء رجل واحد؛ يتصافحون بالقلوب قبل الأيادي، شركاء في المغنم والمغرم، وينادون بصوت واحد: قيام ثورة ناعمة، بلا عنف ولا تهجير، تبحث في المسارات الممكنة، وتستثمر الجهود والطاقات، وتُجيّش الشعب معها «عشائريًّا وفكريًّا وعاطفيًّا» بجميع مكوناته لغاية واحدة، وهدف كليٍّ محدد لا يقبل النزاع، ولا المساومة، كما أنه لا يقبل التأخير والتسويف: هو تنمية المنطقة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، تنميةً لموجود مقتنى بالحفظ والرعاية، أو بناءٍ وإبداع لمعدوم غائب. وحريٌّ بدعاة هذه الحملة أن يبدأوا من داخل الشعب الأزوادي بوضوح واقتدار مع السِّلْم والإصرار، وأن يستمدوا ثقلهم من أعيان وعلماء المجتمع، وينطلقوا من مبدأ العدل والمساواة، وحق المشاركة بالرأي في القضايا الكبرى المصيرية، بشعار لا عنف ولا استسلام، مع السعي لبناء العمل الجماعي الموحّد؛ إذ لو أمكن للفرد أن يعيش بلا تعاون لكان ذلك لأبي البشر آدم عليه السلام، فالتعاون ضرورة للإنسان كمبدأ لا غنى عنه لإقامة الحياة وتنميتها، وحاجة ملحّة في تكوين شخصية الفرد وخلعه جلباب الأنانية، وتتشعب هذه الحملة الناعمة من خلال مجالات ترفع من شأن التوعية بالحقوق الواجبة قانونيًّا ودوليًّا، مع استثمار الفرص المتاحة في الداخل والخارج، وبسقف محليٍّ يتمثل: بنهضة المجتمع الأزوادي، والمساهمة في خدمته ليحظى بعيش كريم، ودعم الاستقرار والمدنية، والتخلص من ظاهرة التصحَّر والهجرة، وأما السقف العالمي: فالمصالحة عنوانه، والتعايش مطلبه مع القوانين الدولية والمعاهدات العالمية بما لا يلغي الخصوصية الثقافية، ولا يستعدي العالم، فليس من الحكمة ولا الرُشد قطع الصِّلات مع العالم الخارجي؛ حتى لو أمكن ذلك، فكيف مع عدم إمكان وقوعه في ظل الدولة الحديثة وسطوة الاتصالات! والثورة الناعمة بمطالبها المسموحة شرعا وعقلا، وحسا ووجودا هي الكفيلة بالحفظ والرعاية لأهم عامل من عوامل التنمية، وهو العامل البشري، فالإنسان بعلمه وعقله، وإعانة الباري له مع كامل الارادة، يقدر على صنع المعجزات، والتغلب على العوائق، وبتوحيد الجهد نحو التنمية، يستطيع الشعب بنفسه، أو عبر ممثليه الأمناء والأقوياء «روحا وعقلا» أن ينتزعوا حقهم بسبل مشروعة، وطرق سياسية معلومة. 4 إن هذا الشعب الذي يعاني على مرّ السنين من التهميش والتهجير وقلة الموارد، لم يُنسه ذلك إسلامه ودينه وعقيدته، فهو شعب لا يقبل المساومة على دينه، ولا المزايدة عليه، ولا يحتاج لبضع مرتزقة يتسلقون عليه، ويجوبون طرقات المدن يرفرفون بأعلام سوداء، ويتبجحون أمام الكمرات أنهم يُطبقون شرع الله الذي اختزلوا جماله في السرقة والجلد مع سوء تطبيق وقلة فقه، ويُعلنوا أمام العالم أنهم دعاة، وهداة مهتدين زعموا! يا لها من أضحوكة وطرفة لا يمل الزمان من تكرارها والسخرية منها! فالمجتمع الأزوادي من طبيعته في الجملة التديّن، والمبالغة في احترام كل متنسك، ومدَّع للعلم ولو كان جاهلا أو سارقا في الواقع! فهل سأل أولئك حملات الاستعمار التي حاولت وظنت أن الفقر سيَرد أولئك عن دينهم؛ فخابت آمالهم حين تكسرت معاناة الجوع والظمأ أمام العقيدة والمبدأ؟! «كما أقر الغربيون أنفسهم، فإن «البابا» لم يعمّد من العرب والطوارق في صحراء «أزواد»إنسانا واحدا، بما في ذلك خادمه!» انظر كتاب: الأحرار الملثمون. فهذا الشعب المنهك، والمليء بالجراح لا يحتمل جُرحًا غائرا يُضاف إلى جراحاته المتعددة، وليس بحاجة لمزيد من الدماء والشتات، فالحروب من طبيعتها قديما وحديثا أنها: تأتي على الأخضر واليابس! وقليلا ما يسلم مِن شرارتها مَن كان في زمنها، فكيف بمن في محيطها ومجالها. 5 من هنا يحسن بقادة أزواد التفكير مليًّا بحنكة ودهاء، وبناء السدود العالية في وجه كل ما يُشعل فتيل الحرب؛ لأن الخاسر فيها هم المدنيون لا غير، فلا أبراج شاهقة تُحرق هناك، ولا طرق معبّدة شاسعة تتكسر، ولا محطات كهرباء أو وقود تتفجر، ولا أسواق تجارية ومرافق عامة تتحطم، كل ذلك مما يحفل به العالم والجنوب المالي، وتكفله الدولة الحديثة لمواطنيها لم يتمتع بشيء منه سكان تلك البقعة! فإذا كان قدرهم هو عيشهم هكذا فلا أقل من سلامة نفوسهم، وبقاء أنعامهم، وخيامهم الممزقة. وربما الغريب في الأمر أن الجماعات الوافدة، أو تلك الحكومة الظالمة لم ير العالَم لهما أثرا في إغاثة اللاجئين المنكوبين، ولا في تجهيز المأوى لهم، ولم تجلب لهم غذاء ولا كساء، فمن لا يهتّم بآلاف المشردين من شعبه، ليس له الحق في تقرير المصير لهم، ولا في العبث بأرضهم وتراثهم، إنها بلا شك معركة بين طرفين كلاهما لا يهمه صلاح العباد والبلاد بقدر ما يهتم بملء فيه! ألا يكفي التهجير ومخيمات الإيواء، ويكفي الغموض والعشوائية، وافتعال المعركة؛ لصناعة الأمجاد الذاتية على رؤوس الأيتام، وآلام الأرامل، وتخويف الآمنين؟! 6 وبعد، فما الذي يطلبه أولئك الذين تدفقوا على موريتانيا بالآلاف، قادمين من أزواد، أو الذين نزحوا بأعداد مثلها، أو أكثر منها لبوركينا فاسو خوفا من بطش الحرب، وقل مثل ذلك في من خرج للجزائر والنيجر هاربا من القصف العشوائي؟! ما يطلبه أولئك لا يحتاج لكثرة التنظيرات، أو الاغراق في التفاصيل والتشدق بالعبارات، ولا الثرثرة في الأستديوهات الفاخرة، إذا نظرت في وجوه اللاجئين التي يكسوها الأسى والحزن ستتحدث لك بحالها قبل مقالها: ما الذي فعلناه للعالَم، وحكومة الجنوب المالي، وجماعات الإفساد حتى حرمونا من أبسط حقوقنا: الجلوس في أرض ورثناها كابرا عن كابر، وسقينا رمالها بدماء أجدادنا أيام الاستعمار؟ إن الأمر الوحيد المؤكد في هذه الحرب، والتي قبلها هو الإعدام البطيء للاجئين الضعفاء من النساء والأطفال وكبار السن، وكلما كانت الحرب غامضة وعشوائية كان حصادها من الأبرياء بالغ الكثرة! والتدخل الفرنسي يزيد الأمر انغلاقا وضررا، وتوترا واضطرابا في داخل أزواد أو خارجها، فالتقارير تنبئ عن تضاعف الأعداد الهائلة من المشردين والنازحين، فقد أشارت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أنه تم تسجيل 144.000 لاجئ مالي إلى اليوم في الدول المجاورة (54000 في موريتانيا، و50.000 في النيجر، وأكثر من 38.000 في بوركينا فاسو)، وبخصوص النازحين داخل مالي قدرت أن عددهم يفوق 200.000 شخص. وذكر أوليفيي فانديكاستيل مسؤول المناصرة الإنسانية في منظمة أطبّاء العالم أنه تمّ إحصاء 2050 طفل مصاب بسوء التغذية في منطقتي كيدال وغاو منذ شهر سبتمبر، فضلا عن استقبال 400 رضيع شهر ديسمبر الفارط في كيدال وحدها. وعلى المستوى الإنساني، دقت المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة، ناقوس الخطر، مؤكدة أن جل اللاجئين الذين فروا من مناطق النزاع شمال مالي يواجهون ظروفا صعبة، رغم جهود الدول المستضيفة. فأين الدور المنوط بحكومة مالي، وأرباب شرعنة المصالح، وإلبساها لباس الدين، وإظهار التنسك الأخرق الذي لا يعرف من الشرع إلا ما يعزز وجوده من أولئك المشردين البؤساء، فلا أرضا عمروا ولا نفسا أبقوا؟! * باحث وكاتب في الدراسات الشرعية [email protected] m_alansary1@