عندما قدم الباحث في جامعة جون هوبكنز الأمريكية ستيفين تيليس مؤخرًا مصطلحًا جديدًا للمهتمين بالعلوم السياسية هو الكلودجيوقراطية Kludgeocracy كان المقصود به في الأساس التعبير عن السياسات العامة للإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة والمعنية بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية.فالمفهوم وضحه تيليس بأنه إعادة تركيب الأجزاء الصغيرة بصورة عشوائية ومرتبكة ولكنها ناجعة مؤقتًا لتحقيق هدف من الأهداف التي تعالج مشكلة ما.ويتميز هذا النوع من الإدارة السياسية بالغموض الشديد والتعقيد والتشابك في مواجهة المشكلات وبخاصة الأكثر إلحاحا منها أو تلك التي تلقى اهتماما جماهيريا واسعا.ويمتزج الرد الحكومي في السياسة الكلودجيوقراطية بآليات غير مباشرة وفى أكثر الأحيان غير مترابطة تثير تساؤلات متعددة في الداخل والخارج حول مغزاها أو جدواها.ولكن يبدو أن تقديم الرجل للمصطلح بهذا الإطار النظري قد يتواءم بشكل كبير مع طرق الإدارة السياسية في أماكن أخرى من العالم، وبدا أن الكلودجيوقراطية في طريقها لأن تتبوأ مكانا مميزا في مصر تحديدا بعد ثورة عظيمة أبهرت العالم في الخامس والعشرين من يناير عام 2011. فقد مرت التجربة السياسية المصرية بمنعطفات خطيرة ومطبات وطرق شديدة الوعورة، أفرزت مناخا سياسيا متغيرا وليس مغايرا على إطلاقه بحسب المراقبين، تماما كما أشاعت مناخا اجتماعيا فوضويا برره النظام الجديد بضرورات التحول ومخاضه، ولم يكن الاقتصاد المصري بمنأى عن المشكلات فواجه ويواجه هو الآخر تحديات هددت مؤشراته في الصميم وأرقدته محتضرا في غرفة العناية المركزة. لسنا في هذه القراءة بصدد رصد التحولات التى حدثت بعد الثورة، ولكننا معنيون بالأساس بالأحوال التى آلت إليها البلاد بعد ما يقارب عامين من اندلاع شرارة الثورة الأولى، وفى خضم استفتاء عام على مسودة أول دستور لمصر بعد الثورة، ومعنيون أيضا بتعامل النظام الجديد في مصر، مع هذه الأحوال، ارتكازا على واقع رقمي بياني وليس إتباعا لعاطفة أو مشاعر أو ثقة فى قدرة النظام الجديد على تغيير هذه الأحوال في المستقبل المنظور. وإذا ما استثنينا المراحل الأولى التي قد يحتاجها أي نظام جديد للدراسة والتقييم والتعرف بدقة على أوضاع البلاد والمهام والمسؤوليات والتحديات، سيكون من الملائم أن نبدأ من نقطة تبتعد نسبيا عن خطاب الرئيس محمد مرسي في ميدان التحرير بعد تنصيبه، ذلك الخطاب الذي اقترن بشحنات عاطفية وانفعالات متدفقة لاقت وقتها قبولا شعبيا وارتياحا واسعا، ومن ذلك التاريخ يمكننا أن نرصد تخبطا سياسيا واضحا في قرارات الرئاسة بغض النظر عن النيات أو اتهامات المعارضة أو حتى قدرات الرئيس، فصار التخبط والارتباك عنوانا مميزا لعملية صنع القرار الرئاسي، وصارت سرعة التحول من القرار لنقيضه أمرا يبعث على الدهشة والتساؤل وفى بعض الأحيان الصدمة سواء لمؤيدي الرئيس أو لمعارضيه على حد سواء.لم يتقبل الكثير من المراقبين على سبيل المثال منطق أن تتم إقالة النائب العام السابق وتكليفه سفيرا لمصر في دولة الفاتيكان ثم يتم التراجع سريعا عن القرار ليعود الرجل، الذي ثارت حول أدائه العديد من علامات الاستفهام، ليمارس مهام منصبه من جديد وكأن شيئا لم يكن.لم يتقبل الكثيرون أيضا أن تصدر الرئاسة إعلانا دستوريا رأته مصيريا وضروريا لخطورة المرحلة التي تمر بها البلاد ثم تتراجع عن بعض بنوده الأساسية فيما بعد حتى وإن كانت قد أثارت سخطا شعبيا واسعا. تناغم ويتناغم المشهد السياسي بشكل عام في داخل مؤسسة الرئاسة مع ما يطرحه تيليس ومفهوم الكلودجيوقراطية، فالمتتبع لصناعة القرار الرئاسي منذ مراحل تكوينه الأولى ومبرراته ووصولا لآثاره وتوابعه تنتابه مشاعر الحيرة من تعارض القرارات وسرعة تحولها وغموضها بل وتناقض تفسيراتها في كثير من الأحيان. ولم يعد من المستغرب في الواقع أن يتساءل أستاذ في العلوم السياسية أو باحث متخصص عن طبيعة ما يجرى حوله لشدة التداخل بين المعطيات كافة وتضارب المعلومات وارتباك وغموض التفاصيل. واذا كان من الصعوبة أن نستخلص تحليلا حازما لما يدور فى دهاليز السياسة المصرية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، عطفا على حالة الاستقطاب الحادة التي اجتاحت رموز المجتمع ومفكريه ونخبته وتاهت معها العديد من الحقائق، فالأمر ليس بذات الصعوبة إذا ما اتسعت رؤية التحليل السياسي لتشمل المراقبين والمهتمين والمتعاملين مع الشأن المصري فى الخارج، فهذا العالم «الآخر» قد انتقلت مرئياته حول المشهد السياسي المصري رويدا رويدا من خانة «الإعجاب» إلى خانة «التساؤل»، وأصبح من الضروري إذا أراد النظام المصري أن يعود لاعبا فاعلا في المجتمع الدولي أن يزيح الستار عن الغموض الذي يكتنف سياساته ويفسر حالات التخبط الرئاسي الأخيرة، وسريعا جدا، قبل أن تنتقل مرئيات العالم حول ما يحدث فى مصر سياسيا إلى خانة «السخط» وما قد يمثله ذلك من خطورة كبيرة على البلاد في المستقبل. وقد أفرزت الحالة السياسية المرتبكة قبيل وأثناء الاستفتاء على الدستور مناخا محتقنا ساعد على إحداث توتر ملحوظ فى الشارع السياسي، وصاحب ذلك ظروف اقتصادية غير مواتية مر بها الاقتصاد المصري بعد ثورة يناير طبقا للأرقام والبيانات الحكومية أو الدولية، ظروف أدت إلى إعادة تفكير المؤسسات الدولية المانحة تقديم تسهيلاتها الائتمائية لمصر وسط تراجع ثقة المستثمرين وتراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى نحو 15.1 مليار دولار فقط من 36 مليارا قبل اندلاع الثورة. والحكومة المصرية التي رغبت في تأجيل إقرار صندوق النقد الدولي لقرض ال 4.8 مليار دولار رغم التوقيع المبدئي عليه بدعوى إجراء حوار مجتمعي حول برنامج الإصلاح الاقتصادي وما يستلزمه من إلغاء لدعم بعض السلع كالوقود وزيادة الضرائب على الكثير من السلع الاستهلاكية، عكس قرارها ارتباكا واضحا، وتساءلت الجهات المانحة عن قدرة النظام الجديد على الوفاء بتعهداته والمضي قدما في التزاماته بالإصلاح والتنمية. أربكت كل هذه الظروف صناعة القرار المصري منذ انتخاب الرئيس محمد مرسي بشكل واضح، وبدا وكأن النظام يتعامل مع حلول المشكلات بالمسكنات التي تعطى أثرا ايجابيا فوريا ولكنها لا تشفى من الداء الذي قد تستفحل أعراضه في المستقبل بشكل يستعصى على العلاج. وربما أيضا كان هذا الارتباك على المستوى الاقتصادي دليلا على غياب أو تراجع الرؤية الاقتصادية المتكاملة للنهوض بالاقتصاد من عثرته. وقد يفسر البعض هذا الارتباك بالسعي الدائم لتقويم أوضاع أنهكتها سنوات طوال من الفساد، غير أن المنطق الاقتصادي فى العالم لا يعترف بذلك، فالدوائر الاقتصادية العالمية والمؤثرة في القرار السياسي في الغرب ليس عندها وقت الفراغ الكافي لتتابع مؤامرات رجال النظام القديم والوعود الرئاسية ومواجهات الأحزاب والقوى الاجتماعية والسياسية، فهذه الجهات تتعامل بمنطق عملي وتطبيقي بحت لا علاقة له بالمشاعر الفياضة ولا باالنيات، وعندما تتحدث الآن عن ارتباك واضح في سياسات الرئاسة وصناعة القرار في الحكومة المصرية فهذا تعكسه أفعال وبيانات وأرقام على أرض الواقع ينبغي كشفها والتعامل معها وعدم تجاهلها أو التقليل من شأنها. وقد عمدت السياسات الكلودجيوقراطية التي اتبعتها السلطات التنفيذية في مصر إلى مواجهة المشكلات بحلول وقتية سريعة، فعلقت الزيادات الضريبية على السلع والتي كانت تستهدف سد جزء من عجز الموازنة المتوقع لمعالجة توترات الشارع وانقساماته، وبات رد الفعل على الغلاء المتوقع مؤجلا لا تعرف أبعاده وتداعياته، وأسهم قرار الضبطية القضائية لرجال الجيش في تعزيز الوضع الأمني خلال عمليات الاستفتاء لمواجهة مشكلات العنف التي ظهرت وبقوه إلى السطح في الفترة الأخيرة، وان كان تداعيات هذا الأمر لا تزال غير واضحة في المستقبل بشأن احتمالات عودة الجيش إلى المعترك السياسي من جديد، واستهدفت دعوة الرئيس لحوار مع قوى المعارضة إلى إيجاد نوع من التوافق حول الدستور والقضايا الخلافية الأخرى غير أن الرهان على هذا التوافق بعد إقرار أو رفض الدستور يبقى فى دائرة واحتمالات الخسارة. مدخلات عشوائية وقد تكون السياسات قد استندت إلى مدخلات عشوائية لتخرج بهذا الصورة المرتبكة، وحتى وان كانت تعالج موقفا متأزما بصورة وقتية، إلا أنها تبقى في النهاية مشروطة بتوافر عوامل محددة أو بتغير ظروف أو مواقف سياسية معينة، وهذا ما نسميه في العلوم السياسية بنظرية «لو» The IF Theory وبالتالي فالصلاحيات الرئاسية مرهونة بتراجع أو ازدياد الخصومة مع السلطة القضائية، والمضي قدما في سياسة الاقتراض من المؤسسات الدولية مرهون بعودة الهدوء للشارع أو بمراجعات فكرية لقوى ترفض المبدأ من منظور ديني محض، ومحاكمات الفاسدين من رجال النظام السابق، ذلك المطلب الثوري الأبرز، تظل مرهونة بتوافر أدلة جديدة، والدعوة للتوافق حول القضايا الخلافية تبقى مرهونة بتراجع فكري ومنهجي لقوى المعارضة، وبالتالي فكل شيء يبقى مشروطا يغرق المجتمع في تفاصيله ويضيع معه الكثير من الجهد والوقت والمال. وقد صاحبت هذه المشاهد المرتبكة واشتراطاتها مناخا متوترا قبيل وأثناء الاستفتاء على الدستور، وبدا واضحا من الهرولة لإنهاء صياغة المواد قبيل أحكام قضائية منتظرة، أن مبررات الرفض والقبول يحكمها في الكثير من الأحيان قناعات شخصية أو دوافع عاطفية أو مصالح فئوية أو دلالات دينية أكثر ما يحكمها الخيار السياسي والاعتبارات النقدية الوطنية.ووسط ضباب سياسي كثيف أيد 56.5% من الناخبين في المرحلة الأولى مسودة الدستور في حين عارضها 43.5%، وبغض النظر عن الأرقام ومشاعر السعادة أو الحزن التي انتابت المصريين بعد إعلان النتائج الأولية لهذه المرحلة تبقى عدة دلالات مهمة ينبغي التعامل معها بشكل أكثر دقة وتفصيلا في المرحلة القادمة. ارتباك أولا، برزت العلاقة السببية بين حالة الارتباك السياسي قبيل الاستفتاء والنتائج التي آلت إليها عمليات التصويت فيما يتعلق بتراجع نسب تأييد القوى الإسلامية في الشارع المصري، وانتقلت القوى الإسلامية للسؤال عن حجم ونسبة هذا التراجع بعدما كانت تنفيه من الأساس، وقد يؤثر ذلك على المشهد التالي الذي ازدادت معه آمال القوى المدنية على انتزاع مقاعد أكثر في مجلس النواب في الانتخابات المقررة في العام الجديد وسط تمسك الإسلاميين بفرصهم في الاستحواذ والسيطرة استنادا على قدراتهم التنظيمية وتواصلهم القوي في الشارع. ثانيا، أظهرت عمليات التصويت التي تمت بهدوء وسلمية أن الاشتباكات التي سبقته وخلفت عشرة قتلى على الأقل ومئات المصابين من مؤيدي ومعارضي النظام كان من الممكن احتواؤها بشكل كبير إذا تعامل كل طرف من أطراف العملية السياسية مع الموقف بالحنكة والمرونة الملائمة انطلاقا من مسؤولياته السياسية والأخلاقية تجاه الوطن وأبنائه وتحقيقا لمصالحه في ذات الوقت، وعلى الجانب الآخر فالاحتقان السياسي معروفة أسبابه ودوافعه أمام القيادة السياسية، التي يجب عليها التدخل فى التوقيت المناسب قبل أن يفرز هذا الاحتقان سلوكا عدوانيا أمكن السيطرة عليه بتعزيز أمنى وبتنظيم بسيط في كل الأحوال رغم حدوث بعض التجاوزات القليلة هنا وهناك. ومن الطبيعي أيضا أن تكون المؤسسات العامة والخاصة في الوضع الذي يمكنها من مساعدة النظام في تحقيق ذلك التوافق فلا تضيف إلى الاحتقان ولا تدعو للتحريض، وربما مارست بعض الوسائل الإعلامية دورا في هذا الاتجاه بقصد أو بدون، ولكن معالجة النظام لهذا الأمر لا تكون بالعقاب الانتقائي وإنما بوضع أسس واضحة تساعد المؤسسات الإعلامية كافة على تأدية وظيفتها على أكمل وجه ضمانا لحريتها المسؤولة. حشد ثالثا، بعكس استفتاء التاسع عشر من مارس الذي أجراه المجلس العسكري، تراجع الربط فى أذهان الناخبين بين تعاليم الدين والخيار السياسي بشكل كبير وملحوظ، على الرغم من اتساع مساحة الأحاديث السياسية في دور العبادة بشكل لافت، وقد حرص رجال الدين في كثير من الأحيان، وبإصرار، على توضيح أنهم لم يقصدوا توجيه الناخبين لاختيار معين، ونفى علماء آخرون أن يكون للانتخابات والاستفتاءات دلالات دينية معينة، وربما أفقد هذا التراجع الإسلاميين سلاحا مهما استخدم فى السابق لحشد الأنصار وتوجيههم سياسيا، وبات لزاما على القوى الإسلامية البحث عن أدوات أخرى أكثر برجماتية فى التعامل بشكل سليم مع وعى سياسي شعبي ينمو باضطراد. رابعا، مثلما مثل الاستفتاء على الدستور فرصة للبعض أن يمارس دورا سياسيا حرم منه فعليا على مدار سنوات طويلة متصلة، مثل للبعض الآخر فرصة «للثأر» من الفريق الآخر، وبالتالي لم تكن مواد الدستور ذاتها تعنى الكثير بالنسبة لهؤلاء، وربما لم يقرأوه في الأساس، بقدر ما كان الهدف توجيه لطمة للفريق الذي يخالفه الرأي، بالتالي كان تعامل بعض الناخبين مع هذا الاستفتاء باعتباره حلقة من حلقات مسلسل متواصل من الأفعال وردود الأفعال، أدت في السابق وقبيل الاستفتاء إلى مواجهات واشتباكات واتهامات حرق معها بعض المقار الحزبية وغابت معها أبجديات الحوار.وبالتالي كان التصويت في بعض الأحيان «سلبيا» ليس بقصد الانتصار بقدر الرغبة في التشفي بخسارة الآخر. وتضيف الكلودجيوقراطية المصرية لمشهد الاستفتاء الأخير على الدستور تفاصيل متوقعة لسيناريوهات قادمة، عبر عنها البعض داخليا بالاستمرار في «نضاله» سلميا من أجل تحقيق أهداف الثورة أيا كانت النتائج النهائية، وعبر عنها البعض خارجيا بإجراءات عملية قد تكبح مسار التنمية وتعيق المنافسة الاقتصادية في عالم السوق الحر، وفى كل الأحوال تبقى سيناريوهات مرحلة ما بعد الاستفتاء على الدستور مرهونة بعدة عوامل أهمها استمرار أو تغير سياسات النظام الجديد في مصر وإرادته وجديته في إصلاح الاعطاب التي أصابت صناعة قراراته، والإرادة السياسية في إجراء حوار حقيقي وفعال مع قوى المعارضة تكون الرئاسة طرفا أصيلا ولاعبا أساسيا فيه لحسم الأمور الخلافية بما فيها الاختلافات حول مواد الدستور، والقدرة على التعامل مع التحديات الداخلية المتمثلة في احتقان عدد من النقابات المهنية ومطالبها المتصاعدة. تهدئة وفى ظل التخوفات من زيادة الانقسامات في الشارع السياسي المصري في مرحلة ما بعد الاستفتاء، من المهم جدا أن تبرهن السلطة الحاكمة في مصر عمليا أن الثورة المصرية لن تكتمل بحزمة إجراءات وقتية أو تغييرات فى الأشخاص والأسماء وإن كانت هذه الخطوة تساعد نسبيا على تهدئه المواقف المشتعلة، والأهم هو إتاحة المجال الشعب للحصول على حق المعرفة، وهو أهم الحقوق التى يكتسبها الشعب الثائر على الإطلاق باعتبارها المدخل الحقيقي للإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.فقد مر على الثورة المصرية نحو عامين وحق المعرفة غائب تماما، فقد استهان به المجلس العسكري أولا ثم الرئاسة والحكومة، حتى أن هذه الحكومة التى تتحدث عن أهمية الحفاظ على مكتسبات الثورة أخفت برنامجها للإصلاح الاقتصادي عن العامة والقوى السياسية المختلفة بينما كانت تتفاوض حول قرض صندوق النقد الدولي.والأمر ينسحب على الرئاسة التي تتحدث عن انطلاق مصر إلى الأمام ولا أحد من الناس يعرف تحديدا كيف يكون الانطلاق ومتى وبأي وسيلة، وتتحدث عن إحكام للسيطرة على سيناء، بينما الرأي العام لا يعرف تحديدا ما الذي يدور هناك وسط تكرار لحوادث الإرهاب والقتل، وحتى الأحزاب السياسية تبتعد عن التفاصيل، فالحزب الذي فاز بأغلبية البرلمان المنحل يتحدث عن برنامج للنهضة داخل أروقته لا يعرف الناس عنه شيئا حتى أصبح مثارا للتندر والتهكم في أحاديث العامة ورسائلهم. من المهم أن تتعامل الأطراف السياسية في مصر من منطلق المصارحة والمكاشفة في الفترة القادمة، لأن حجب المعرفة من خصائص الاستبداد، ولا يبدو أن أغلب السياسيين المصريين قد تخلصوا من ذلك بعد، والأغرب أنهم يلومون تخبط وسائل الإعلام وانتشار الشائعات وشيوع الفوضى رغم قدرتهم على كشف الحقائق سريعا وفى الوقت المناسب. من الأفضل أن يعرف الناس واقعهم السياسي والاقتصادي بهدوء أولا حتى ولو كان أكثر مرارة وقسوة مما يتصورون، فمن هنا يبدأ العلاج الحقيقي الفعال الذي يعتمد على تصورات سياسية ورؤى وخطط أشمل وأرحب، بدلا من الاعتماد على مسكنات الكلودجيوقراطية التي تعمل في النهاية على تراكم المشاكل والى استحداث مشاهد أكثر دموية في المستقبل سيدفع الوطن وأبنائه ثمنها غاليا.