يكمن أحد أسباب قوّة الإسلاميّين في العالم العربيّ في الظلم والاضطهاد اللذين عرّضتهم الأنظمة العسكريّة لهما. لكنّ القهر ليس إجازة للحكم والسلطة، وليس نائباً عن إلفة ما مع النظريّات السياسيّة الحديثة التي لا يجيدها الإسلاميّون. وقد وفّر لنا الأسبوع الماضي عيّنتين باهرتين عن هذا الافتقار الكبير، حصلت واحدتهما في مصر وجدّت الأخرى في تونس. فالرئيس محمّد مرسي بإرادته إقالة النائب العامّ وتعيينه سفيراً إنّما نمّ عن تصوّر لمبدأ فصل السلطات لا صلة له بالفصل ولا بالسلطات. وكان الأدعى للدهشة استمطار الفتاوى الدينيّة التي تبرّر غربته عن السياسات الحديثة وتعزّزها. وهذا ما جاء بالتوازي مع إخراج الصراع من المؤسّسات وترك عناصر من حزب الرئيس يعتدون على خصوم سياسيّين يمارسون حقّهم في التظاهر والاحتجاج. أمّا في تونس فأتى الشريط المسرّب عن لقاء زعيم «النهضة» راشد الغنّوشي بقيادات سلفيّة بليغ الدلالة. ذاك أنّ الأوّل لم يكتف بالإعلان، من موقعه المسؤول، عن أنّ مؤسّستي الجيش والأمن «غير مضمونتين»، بل ذهب أبعد فبدا كأنّه يرسم، مع قيادات السلفيّين، عناصر خطّة تآمريّة لإسقاط الحياة البرلمانيّة وإقامة نظام إسلاميّ. لكنّ ما كان بليغ الدلالة أيضاً أنّ مناخ الحرّيّة الذي أطلقته الثورتان التونسيّة والمصريّة انفجر في وجهي الغنّوشي ومرسي. وبالفعل نجحت قوى المعارضة والنقابات في تونس في فرض تنازلات على «النهضة» منها الإقرار بنظام رئاسيّ يجنّب البلد الطغيان الأكثريّ، فضلاً عن توزيع جديد للسلطات بين الرئاسات، وتحديد موعد للانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة. وارتبك مرسي بدوره، حيال قراره فتخبّط في التعامل معه قبل أن يتراجع عنه ويسحبه من التداول. وأغلب الظنّ أنّ المرحلة المقبلة ستسجّل الكثير من عناوين التخبّط والتراجعات، سيّما وأنّ الحركة الشعبيّة تضرب موعداً جديداً مع يوم الجمعة المقبل، فيما تقترب الجمعيّة التأسيسيّة من إنجاز مشروع الدستور الذي ستلي الاستفتاءَ عليه انتخاباتٌ تشريعيّة يُقدّر أنّها مفصليّة. وهذا يشي، في عمومه، بأنّ أمور مصر وتونس، وعلى تفاوت بينهما، يصعب، إن لم يستحل، إفضاؤها إلى خلاصة إيرانيّة، حيث يحكم الإسلاميّون جمهوريّة إسلاميّة يتربّع في سدّتها وليّ فقيه. وكائنة ما كانت النيّات السلطويّة لدى إسلاميّي البلدين العربيّين، يبقى أحد أبرز الفوارق أنّ إيران الخمينيّة إنّما زاوجت قطعها مع الغرب وقطعها مع الحياة السياسيّة والدستوريّة، ثمّ جعلت من هذين القطعين طريقاً إلى عزلة توتاليتاريّة. أمّا في مصر وتونس، فالإسلاميّون ستستولي عليهم الحيرة والارتباك لأنّهم يقولون إنّهم لا يريدون مثل هذا القطع، وهو، في آخر المطاف، قطع مع مصالح شعوبهم وبلدانهم. وقد يكون معيار النجاح في مبارحة من الحيرة، أو الوقوع في أسرها، مدى التعويل على الهرب بقضايا خارجيّة وإيديولوجيّة، من نوع مكافحة «التطبيع» مع إسرائيل، أو الفتاوى التي يريد أصحابها «تحرير القدس». فمواقف وتصرّفات كهذه هي المعادل للاستيلاء الإيرانيّ على السفارة الأميركيّة الذي سبق أن مهّد لاجتثاث كلّ تعدّد وكلّ حياة سياسيّة في إيران الخمينيّة.