لأمد ليس بالقصير ظلّت دعوات احترام العقائد، وصيانة المعتقدات، وعدم التعدّي على معتنقيها مهما كان درجة الاختلاف معهم، تراوح مكانها بين الرّجاء والتمنّي والمناشدة، كلّما طفا على السطح حدث يحرّك البركة الساكنة، وموقف يثير كوامن النفوس غضبًا جرّاء تصرف أحمق من هنا أو هناك، يعمد مقترفه إلى ارتكاب جريرة الإساءة إلى إحدى الديانات الكريمة، أو يتطاول على نبي أو رسول، والشواهد على ذلك حاضرة في سطح الذاكرة لا تحتاج إلى جهد لاستدعائها. وخروجًا من دوائر التنديد والرجاء والتمني؛ إلى حيّز الفعل المؤثّر جاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- التي ألقاها أثناء الحفل السنوي لاستقبال الوفود الإسلامية ورؤساء بعثات الحج لهذا العام بقصر منى، كلمة أحدثت صدى كبيرًا وتأثيرًا واسعًا، لجملة من الأسباب لعل في مقدمتها أنها صدرت من خادم الحرمين، بكل ما تحمله شخصيته من كاريزما عالمية أثبتت حضورها المؤثر في المحيط العالمي بطرح المبادرات المثمرة، والسعي إلى إشاعة السلام والأمن في كافة أقطار العالم بوصفه قائدًا إسلاميًّا، وعلى هذا تأسست كلمة خادم الحرمين في الحفل بمنى مترجمة لأحاسيس ومشاعر الشعوب الإسلامية التي آلمها وضايقها الإساءات المستمرة على ديننا الإسلامي الحنيف ورسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، حيث طالب -حفظه الله- هيئة الأممالمتحدة بمشروع يدين أي دولة أو مجموعة تتعرّض لأيّ دين من الأديان أو لأيّ نبي من أنبياء الله، وهي مطالبة ضروريّة من شأنها أن تضع حدًّا للتجاوزات المتكررة التي تصدر من بعض المتطرفين، كما أنها تستند في جذورها إلى ثوابت إسلامية وقرآنية منظورة في قوله تعالى: «لكم دينكم ولي دين»، فهذا مبدأ يتيح الحرية لكافة الناس في اتخاذ العقيدة التي يرونها، وحسابهم على الله تعالى. وتكتسب مطالبة خادم الحرمين -حفظه الله- بُعدًا مهمًا في هذا التوقيت الذي يتعاظم فيه خطر التشدد والغلو من أصحاب المعتقدات والديانات، وتجاوز بعضهم للخطوط الحمراء في تعصبهم لهذا الدين أو ذاك، ولهذا فلابد لهذه المطالبة أن تؤخذ بمحمل الجد من قبل الأممالمتحدة والمجتمع الدولي، وأن تترجم إلى مشروع عملي قابل للتنفيذ، ينتج عنه إصدار قانون دولي يجرّم الإساءة لكافة الأديان السماوية وللرسل والأنبياء جميعًا، حيث يعاقب المسيء على فعلته بدلاً من ترك عمله المشين يمر مرور الكرام دون ردع أو عقاب، فيعم حينها العنف وتثار الفوضى الناجمة من ردة الفعل كما حدث مؤخرًا من قبل بعض المتحمسين لديننا الإسلامي العظيم إبان عرض الفيلم المسيء للنبي الكريم. إن كلمة خادم الحرمين حملت معاني كبرى، وكانت مملوءة بالصدق، وغنية بالمضامين الدالة على قائد يحب أمته الإسلامية ويستشعر همومها، إيمانًا منه بالدور الرائد الذي تضطلع به المملكة من أجل خدمة الإسلام والدفاع عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وانطلاقًا من حرصه الدائم على الاعتدال والوسطية، وما توجيهه -حفظه الله- أثناء انعقاد مؤتمر القمة الإسلامية الاستثنائي، بإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية، ومقرّه الرياض، إلاّ تأكيد على ذلك، وعلى أهمية الحوار بين الأخوة المسلمين في جميع أنحاء العالم، مؤكدًا أن الفكرة وراء إنشاء هذا المركز لا تعني بالضرورة الاتفاق على أمور العقيدة، بل الوصول إلى حلول للفرقة، وإحلال التعايش بين المذاهب بعيدًا عن الدسائس، ممّا سيعود بالنفع لصالح أمتنا الإسلامية وتوحيد كلمتها. د. علي عثمان مليباري - جدة