في ركن هامشي قصي من مكتبة مسجد الحي الذي أسكن فيه ، وبين كتب المرويات والتفاسير والتراجم المتراصة بغير ترتيب، تراءى لي كتاب مصفرّ الجوانب، مهروس الأطراف , خفيف الحمل، ثقيل المحتوى لطالما سمعت اسمه دون مضمونه يتردد كثيراً، لكن لم يكتب لي قراءته إلا حينما تناولته من هذه المكتبة العتيقة التي تنضح بالعديد من كتب ابن تيمية وفتاواه وسير أعلام النبلاء وتفاسير ابن كثير والشنقيطي ومختصرات الألباني ، لكنها تشكو ظلم الإنسان العربي الذي لا يقرأ. حين صليت الظهر في أحد ايام رمضان رأيت أن حرمان نفسي نوم ما بعد الظهيرة ليوم واحد لا بأس به، وإن ساعات مع العلم وبين ذخائر المعرفة وعصارة تجارب الصالحين هي خير لنفسي من راحة ألف شهر، فتناولت الكتاب الذي قدّم له الشيخ علي الطنطاوي وحققه أخوه ناجي الطنطاوي، ودلفت الى مقدمته والتي تشعر كأنك تنزف من بئر عسل لسهولة ألفاظ الطنطاوي رحمه الله وبلاغة أسلوبه، حيث قدّم تصنيفاً رائقاً لمحتوى هذا الكتاب وقام بفهرسته وتبويبه بشكل جيد تسهل قراءته وتصفحه. ( صيد الخاطر) هذا هو الكتاب و(ابن الجوزي) هو المؤلف وهو من المؤلفات التي قلّ أن تجد لها نظيرا في العلم والأدب والسيرة بل وتطوير الذات، فقد كتب عن تجربته في الزهد وعند السلطان، وقدّم مشورته في الحياة والسعادة والزواج والأبناء، فقد كان عن عبارات ومواضيع متفرقة أشبه بخواطر مضبوطة قام بتقييدها ونتج عنها هذا الكتاب البديع، فتحدث في فصول جريئة وعميقة عن (عقوبات أهل العلم والزهد) و(قيمة الوقت) و(فساد توكل المتصوفة) و( في أن العشق داء الجامدين) و( تخليط العلماء والزهاد) و(الحذر من الأصدقاء) و(التعفف عن أرباب أموال الدنيا) و(صحبة البطّالين) و(حقيقة الموت)، وإن قراءة واحدة لسيرة هذا العالم الجهبذ في مطلع الكتاب قد تغنيك عن قراءة الكتاب والموجود بطبعة أخرى ايضا بمقدمة لعامر ياسين ودار نشر أخرى..وأنا الآن أتساءل كيف عشت هذه السنين دون أن أقرأه أو ينصحني به أحد ؟ ! لقد اطّرحت كتباً ثمينة كنت قد أعددتها لقراءتها خلال الأيام القادمة من العمر كأمثال (العقل وفهم القرآن) للحارث المحاسبي، وآخر كتبه محمد أركون (من منهاتن الى بغداد) ورواية (مدار السرطان) لهنري ميلر و(جرأة الأمل) لأوباما و(سنة أولى سجن) لمصطفى أمين ورواية (زمن الخيول البيضاء) لإبراهيم نصر الله , و(الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية) لمجموعة باحثين، و(المؤمن الصادق) ترجمة غازي القصيبي، ورواية (الحارس في حقل الشوفان) لسالنجر، وكتب عديدة أخرى جلبتها من المعرض، لكن من يظفر بصيد ثمين ك(صيد الخاطر) لا يمكن أن يعدل الى أخرى، إلا بعد أن يُقضى إليّ علمه. شكراً لصاحب فكرة هذه المكتبة، وشكراً لصاحب هذا الكتاب الذي لا أعرفه، لكن أجرهما سيعرف عنوانهما ثم يصل اليهما ( في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى). حامد أحمد الاقبالي - مكة