لماذا لا نتذكَّر الأعلام الذين قدّموا لأوطانهم الكثير في كافة المجالات إلاَّ بعد موتهم، أو مرضهم ومعاناتهم؟! طرحتُ على نفسي ذلك التساؤل، عندما تلقيتُ من بعض محرري الصفحات الثقافية اتصالات تطلب مشاركتي في استعراض إنجازات الكاتب القدير، والإعلامي المخضرم الأستاذ رضا لاري -أمدّ الله في عمره- وإلقاء الضوء على ما قدّمه للصحافة، وما حمله قلمه الرصين من هموم وتداعيات كانت -ولا تزال- إشراقًا في صفحات حياته -شافاه الله، ورفع بأسه-. والأستاذ اللاري من جيل الروّاد في الصحافة، وله باع طويل في الشأن الإعلامي، ودبلوماسي مخضرم، وصاحب قلم رصين.. وللحقيقة فإننا نعاني كثيرًا من طبيعة مجتمعنا الذي وصفه منذ زمن الكاتب الرائد القديم محمد حسين زيدان (بالمجتمع الدّفان)، الذي يدفن وينسى ولا يتذكّر مجهودات وإنجازات رجالاته.. وتذكّرتُ أيضًا ذلك، ونحن نتابع في نادي جدة الأدبي الثقافي برنامج تكريم الأستاذ الكاتب الصحفي الإسلامي الرائع، والإداري الإعلامي البارع الأستاذ محمد صلاح الدين -رحمه الله وغفر له- وهو من الذين عملتُ معهم، وأحبّهم، وأجلّهم، وأُقدّرهم، فقد كان عفيف اليد واللسان، دمث الخلق، سبَّاقًا إلى فعل الخير والمساعدة، وكنت أتمنى أن يحظى بالتكريم في حياته.. وذكرت ذلك عند حضوري في العام الماضي ملتقى المثقفين بالرياض الذي نظمته وزارة الثقافة والإعلام، وكرّمت خلاله عددًا من شخصيات هذا الوطن ممّن رحلوا عنّا، وكادت أن تطويهم ذاكرة النسيان، وتلك بادرة طيّبة من الوزارة، بيد أنني قلت للمسؤولين فيها -حينذاك-: إن الأجدر أن نلحق الأعلام الذين هم على قيد الحياة، ويعيشون بيننا، وهم في صحتهم ونشاطهم حتى يتذوقوا طعم التكريم والوفاء، فيهون عليهم ما بذلوه من معاناة وجهود أفكارهم وقلوبهم؛ ليقدّموا لنا وللوطن شيئًا يستحق.. وذكرت حين التكريم الماضي أمثلة، واقترحت أن تتسع مجالات جوائز الدولة التقديرية لتشمل عددًا كبيرًا ممّن يستحقون التقدير.. حتى لا نضّيق واسعًا.. وليت معالي وزيرها الشاعر المثقف يوّجه بذلك. إنّ مثقفي الأمم، وكتّابها، وعلماءها، ومفكريها، وأعلامها -على وجه العموم- هم الثروة الحقيقية لها، إذ إنهم قدّموا خلاصة أفكارهم ورؤاهم في سبيل الرقى بحضارة وقيمة أوطانهم، وفي العالم الأول يحتل الأديب والمثقف والكاتب والعالم مكانة رائعة متميّزة، فهو على الصعيد الدولي والإعلامي تفتح له المجالات واللقاءات والفرص، وليس للفنانين والفنانات فحسب الذين يسيطرون على مساحات الإعلام المرئي والمقروء.. وهم -أعني المثقفين والأدباء والعلماء- لهم قيمتهم على الصعيد المادي، إذ إن أقل واحد فيهم شهرة يوزّع كتابه ما لا يقل عن متوسط 40 إلى 50 ألف نسخة، بسبب العديد من العوامل منها: ارتفاع نسبة القراءة، وزيادة أعداد السكان، وتقدير الكتاب والكاتب، ولي تجربة مع ناشر أمريكي في توزيع كتابي المترجم للإنجليزية love between fir &frost كشفت لي مدى الاهتمام والرعاية والتقدير الذي يولونه للكاتب والمعلومة.. وعود على ذي بدء، إننا أحوج ما نكون إلى لمسات وفاء وتقدير للنخبة الذين في أوطاننا، وإلى لفتة ضرورية لمن رحلوا من الرعيل الأول، ولم ينالوا التكريم، ولم تحظَ أسرهم بواجب تخليدنا لأعمالهم وذكراهم.. وكذلك -وهو الأهم- للذين يعيشون معنا، إذ تكفي معاناة المثقف والعالم والأستاذ والمؤلّف جرّاء انخفاض عوائده وإيراداته من كتبه بسبب ضعف التوزيع والإقبال على الكتاب، وبالتالي انخفاض النسخ المطبوعة منه، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الطباعة والتوزيع.. ويكفي معاناة أن أفضل الموزعين للكتاب لا يتنازل عن أقل من 50% نسبة على أي كتاب يقبلون توزيعه. الأمر الذي يُكبِّد المُؤلِّف مصاريف باهظة، ولا يُحقِّق له الإيراد الذي يكفل له حياة كريمة، أسوة بالكتّاب والمؤلّفين في العالم الأول.. فمتى تنتهي معاناة المثقف والكاتب والمؤلّف، وتحفظ كرامته؟! [email protected]