جاء البيان الذي أصدره كل من عضو الهيئة الشرعية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان العلامة السيد هاني فحص، والمستشار في المحكمة الشرعية الجعفرية في لبنان القاضي العلامة السيد محمد حسن الأمين حول الموقف من الثورة السورية ومناصرتهما لها مخالفًا للتيار الشيعي العام -كما يبدو- والذي تدعم فيه القوة الأساسية والرسمية المتمثلة في إيران النظام السوري بكل السبل التي وصلت إلى إرسال عناصر من الحرس الثوري لمساندة النظام. فقد قال العلامتان -وكما جاء في البيان- "انسجامًا مع مكوناتنا وخياراتنا الإيمانية والإنسانية والوطنية والعربية، وانتمائنا الإسلامي العام، الذي لم نشعر مرة أننا مضطرون ولا طلب منا أحد، أن نتنصل من خصوصيتنا الشيعية من أجله، وكنا دائمًا على يقين أنه لا يناسب التشيع أن نجافي روحية الإسلام التوحيدية الوحدوية ومترتباتها الفقهية القائمة على القبول المتبادل وتصحيح المسالك المختلفة في الفضاء الإسلامي الرحب والجامع، وتواصلًا مع موروثنا الشيعي في مقارعة الظالمين أيًا كانوا، ونصرة المظلوم أيًا وأينما كان... إننا نفصح بلا غموض أو عدوانية عن موقفنا المناصر غير المتردد للانتفاضة السورية، كما ناصرنا الثورة الفلسطينية والإيرانية والمصرية والتونسية واليمنية والليبية". هذا البيان الذي تأخر في نظر مراقبين يضع تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الطائفتين في ظل ما أحدثه الدعم الإيراني للنظام، وهل هناك أصوات وتيارات مختلفة داخل الطيف الشيعي لاسيما العربي منه يمكن أن تساهم في تخفيف التوتر التاريخي والمعاصر القائم بين الفصيلين؟ وإلى أي مدى تتداخل أو تنفصل مثل هذه التيارات مع إيران بوصفها الدولة الرسمية الممثلة للطائفة الشيعية؟ وما هي الشروط والأجواء الواجب توفرها؟ وكيف سيكون مستقبل العلاقة بين الطرفين على ضوء مستجدات الثورة السورية؟. في البدء يؤكد الكاتب الصحفي محمد محفوظ أن المشكلة الطائفية والمذهبية في العالمين العربي والإسلامي هي مشكلة سياسية وليست دينية، ويوضح ذلك أن التعددية المذهبية في التجربة التاريخية الإسلامية كانت أحد مظاهر الحيوية والفاعلية لمبدأ الاجتهاد الذي أقرته الشريعة الإسلامية، لكن ظاهرة التعددية هذه بفعل التوظيف السياسي للاختلافات المذهبية تحولت إلى ظاهرة سلبية في واقع المسلمين، وانطلاقًا من هذا التوصيف يرى محفوظ أن الشيعة في العالم العربي ليسوا كتلة واحدة وليسوا حزبًا واحدًا وإنما هم كبقية المجتمعات العربية يحتضنون جملة من الآراء والقناعات والتوجهات، ومن الخطأ البين أن يتم التعامل مع واقع المجتمعات الشيعية في العالم العربي بوصفها مجتمعات واحدية أو ذات رأي واحد سواء في الموضوعات أو الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية ومنها الحدث السوري. ويوضح محفوظ أن الرأي العام الشيعي ليس بالضرورة يتبع لمراجع محددة ومعروفة خاصة في القضايا العامة فيقول: "هناك حقيقة فقهية في المذهب الشيعي وهي أن الشيعة لا يلتزمون بآراء مراجعهم في الموضوعات وإنما يلتزمون بها في الأحكام؛ ففي الموضوعات مثل الموقف من حادثة سياسية معينة أو فكرة معينة فإن آراء المراجع في هذه الأحداث مثل آراء غيرهم وهي ليست نافذة على مقلديهم، وإذا أبان أحد المرجعيات عن رأي سواء سلبي أو إيجابي من موقف أو حادثة سياسية معينة فإن هذا الموقف لا يلزم الجميع من الناحية العلمية الفقهية"، ومن الناحية الواقعية والعملية -يضيف محفوظ- فالمجتمعات الشيعية العربية متباينة الآراء من الحدث السوري؛ فهناك من يعتبر أنه مشروع دولي إقليمي يستهدف ضرب خيار المقاومة والممانعة وله مبرراته، وهناك من يقتنع أنها ثورة شعب يطالب بالحرية والكرامة والعدالة، لكنه يستدرك على توظيف هذه المواقف وإطلاق أن الشيعة يساندون هذا الموقف أو ذاك، ويصفها بأنها مجانبة للصواب والحقيقة الاجتماعية للشيعة العرب. ويؤكد الكاتب محمد محفوظ أن هناك صراعًا وتباينًا فكريًا وسياسيًا في الوسط الشيعي بين تيارات متشددة وتيارات معتدلة وإصلاحية لكنه ينفي حالة اختطاف المذهب من قبل "أصولية شيعية" كما يتردد، ويطالب الأكثرية السنية بالانفتاح الإعلامي والثقافي والديني على إخوتهم الشيعة العرب، وفتح المجال لهم ليعبروا عن آرائهم وقناعاتهم الفكرية والفقهية ليكتشفوا أن مجتمعات الشيعة العرب تحتضن قناعات وآراء فكرية مختلفة ومتباينة، كما طالب الأكثرية بالتعامل مع الشيعة العرب كحقيقة قائمة في مجتمعاتهم لهم ذات الحقوق السياسية والدينية لأن هذا سيفضي في الأخير إلى إظهار الصوت الشيعي العربي المعبر عن رأيه وقناعاته الفكرية المستقلة. ووصف محفوظ بيان الشيخ هاني فحص والشيخ محمد حسن الأمين بأنه يمثل نقلة نوعية ومبادرة شيعية متزنة، لكنه طرح سؤالًا وهو: كيف يقابل هذا البيان؟ وما هي الصيغ المؤسسية التي تقترحها الأكثرية لدمج الشيعة في أوطانهم لنيل حقوقهم الدينية والثقافية؟ وأكد في ختام مداخلته ل(الرسالة) أنه حينما يشعر الشيعة العرب أنهم يعيشون في أوطانهم بحرية تامة وبحقوق مكتملة ليست منقوصة سنجد مستوى الاندماج ومستوى التعبير عن هموم الأمة الإسلامية مستوى متقدمًا كما في التجربة التاريخية للشيعة العرب. في حين يرى د. خالد الدخيل الكاتب والمحلل السياسي أن مثل هذه المواقف والبيانات تصدر من حين لآخر من قبل السنة والشيعة، لكن مشكلة الطائفية في المنطقة أن لها مستويين: المستوى الشعبي وهو قديم ومترسخ في الثقافة العربية والإسلامية، والمستوى الرسمي المتمثل في بعض الدول كإيران، ويضيف أنه عندما تتبنى دولة الخط الطائفي لا يكون لمثل هذا البيان أثر كبير رغم أنه موقف نبيل وصحيح وهو الموقف الذي ينبغي أن نتبناه جميعًا سنة وشيعة، وقال: الكل يقول إنه ضد الطائفية لكننا نريد ترجمة لهذا القول على أرض الواقع، ولا ينبغي السكوت على الطائفية في أي مكان، ولأجل محاربة الطائفية لابد من خطوتين: أولاهما: التعامل مع الحقوق من قاعدة المواطنة وحقوقها وليست كحقوق طائفية، وثانيهما: اتخاذ موقف موحد ضد الطائفية في أي مكان حتى لو كان في إيران. وأكد الدخيل عدم موالاة الشيعة بكل أطيافها لإيران ودلل بتجربة الحرب العراقية الإيرانية؛ فالشيعة العرب لم يقفوا مع إيران في حربها ضد العراق رغم كرههم لصدام حسين، لكنه أشار إلى استغلال إيران للطائفة الدينية كورقة سياسية في المنطقة. غير أن د. توفيق السيف يؤكد أن التيار العام في الشيعة لا يؤيد الثورة السورية بالفعل مما زاد من التوتر بين الطائفتين لكنه ينفي أن تكون الثورة السورية هي السبب، ويعزو السيف السبب إلى قلة الوعي من كلا الطرفين سنة وشيعة؛ لأنه وكما يقول: "كلما حدثت حرب في مكان نقلناها إلى بلادنا وكأننا مجتمع لا يفكر في نفسه وإنما مشغول بالآخرين"، ويستحضر السيف كيف تقاتل الأفغان فتحول القتال إلى معركة بين السنة والشيعة و بين الصوفية والسلفية، وكيف تقاتل العراقيون فتحولت كذلك إلى حرب بين السنة والشيعة وكذا الوضع في لبنان، ويشدد السيف على أن الشعب في سوريا يقاتل حكومته وله الحق في ذلك لكن لماذا ننقل تلك المعارك إلى بلداننا؟ ولماذا نستورد خلافاتهم ونخرب السلم الأهلي مع شركائنا في الوطن؟. ويضيف السيف أنه حتى أمريكا وإيران رغم العداء الذي بينهما إلا أن هناك مئات الآلاف من المواطنين الإيرانيين والأمريكيين الذين يعملون في كلا البلدين، وكذلك دول كثيرة حصلت وتحصل بينهم حروب واختلافات لكن المجتمعات العاقلة والمتحضرة تعلم أن هذه الحروب هي مراحل تحدث بين نخب أو طبقات معينة ولأسباب تاريخية في زمانها أو مكانها فلا داعي لاستجلابها إلى بلدانهم. ويحدد السيف السبب الرئيس في ذلك بغياب الهوية الوطنية الجامعة الراسخة في نفوس أبناء الوطن؛ فالإنسان يعتبر نفسه سنيًا أولًا أو سلفيًا أولًا أو شيعيًا أولًا ولا يعتبر نفسه إنسانًا أولًا أو سعوديًا أولًا. ويتفق السيف مع محفوظ في أن الفارق المذهبي ليس هو السبب ولكنه هو الغطاء أو الرداء، كما ينفي أن تكون هناك "أصولية شيعية" تستغل الأوضاع وإنما هناك سياسيون يستغلون الأوضاع، كما اعتبر أن رجال الدين الذين يثيرون القضايا المذهبية والطائفية هم يتصرفون كشخصيات سياسية وكفاعلين سياسيين، وهم يثيرونها لجلب الأتباع وإثارة حميتهم، ويلبسون ذلك لباس الدين لأن هذا ما يناسب الإطار الاجتماعي، لذلك يعود ويؤكد السيف أن جوهر الموضوع هو سياسي طائفي، والطائفية كما يصفها السيف ليست شأنًا دينيًا. من جانبه قلل د. خالص جلبي -الكاتب والمفكر- من أثر بيان (الفحص والأمين) على التقارب بين الطائفتين، رغم أنها مبادرة جيدة، لكنه يعتقد أن الشرخ التاريخي بين الطائفتين زاد عمقًا عشرة أضعاف بسبب التأييد الشيعي للنظام السوري، ورغم تأكيده على أن هناك معتدلين في المذهب الشيعي لكنهم أفراد ولا يعول عليهم، ويبقى الجسم الشيعي في عمومه مناصرًا لإيران ولحزب الله، وكان يمكن للشرخ التاريخي بين الطائفتين أن يلتئم نوعًا ما لو أن إيران وحزب الله توقفوا عن دعم النظام السوري أو حتى قالوا نحن لا علاقة لنا وإنما نحن مع المظلومين والمحرومين كما يقولون في أدبياتهم، أما الآن -يضيف جلبي- فإن الشعب السوري لن ينسى روسيا والصين وحزب الله وإيران وكل من خذله في ثورته حتى من العرب. ويصف جلبي الثورة السورية بأنها هي الثورة الفعلية في المنطقة وستترتب عليها نتائج كبيرة، أولها: ضعف الموقف الشيعي في بلاد الشام وانكسار شوكة إيران وحزب الله، إضافة إلى ما يمكن أن يحدثه في الأساطير الشيعية المأسورة بالخلافات التاريخية بين الطائفتين والتي أكل عليها الزمن وتقيأ -على حد تعبيره- لأنها ستنقلهم إلى مرحلة عصرية وحداثية جديدة. ويضيف جلبي أن من جملة الأوضاع التي ستتغير أيضًا الوضع داخل إيران لأن الثورة -كما يرى جلبي- حين قامت في إيران كانت فعلًا تحمل شعارات إسلامية وإنسانية وكانت هناك تيارات متعددة ومختلفة لكن جاء الملالي وسيطروا على الوضع وأوقفوا التاريخ عند نقطة معينة. وتوقع جلبي أن يغير الإيرانيون أنفسهم نظام الملالي، وأن ينحسر المد الديني الراديكالي وتظهر قوى جديدة في المجتمع الإيراني فيها تدين معتدل وفي نفس الوقت متسامحة وتدخل العصر والحداثة بفكر جديد.