عاتبني صديق عندما قلت: إن الأوضاع في سوريا تقترب من الحسم، وأن نظام بشار الأسد دخل في طور الاحتضار، معتبرًا أن ما قلته يدخل في باب التمنِّي، ولا يستوعب كثيرًا حسابات القوة على الأرض، وقال لي صديقي الكاتب الصحفي، وقد حرص على أن ننتحي جانبًا، في أحد مجالس جدة الشهيرة «كيف انتهيت إلى هذه النتيجة، وأنت مَن كنتُ أظن فيه الحرص على دقة المعلومة وسلامة التحليل؟! وأضاف: «أتوقع أن يستمر نظام بشار الأسد حتى العام 2014، وقد يستمر إلى ما بعد ذلك». المشكلة أن مصادر المعلومات التي يعتمد عليها أغلب الناس لبناء رؤية أو لاستيعاب ظرف، تطرح بيانات متضاربة، تثير الالتباس بأكثر ممّا تساعد على الفهم، ولعل هذا هو ما قاد البعض إلى نتائج قد تكون بعيدة جدًّا عن الواقع، ولعلي ألتمس بعض العذر لبعض من لا يزال يرى أن بوسع النظام السوري البقاء في السلطة بصورة ما، فالحقائق ملتبسة، والصور مرتبكة، والرؤية مشوّشة، ومع ذلك فثمة وقائع تُؤسس بذاتها لحقائق جلية، فهناك في سوريا مَن يشق عصا الطاعة على النظام القائم، وهناك مَن يتحدّى شرعية هذا النظام، وهناك -وهم الأكثرية- مَن يراه وقد سقطت شرعيته، وهناك أكثر من ستة وعشرين ألف قتيل منذ اندلاع الثورة في مارس من العام الماضي، مات معظمهم بقرار من النظام السوري.. باختصار لقد أعلن النظام في سوريا الحرب ضد الأغلبية من شعبه، وهو قد أغلق بذلك كل أبواب المصالحة، وأطاح بكل فرصه في أي تسوية سياسية قد تطيل عمر النظام، أو تسمح بخروج آمن للرئيس ورجاله. يعرف بشار الأسد أن الإعدام هو عقوبة مَن يقتل عمدًا ولو لمرة واحدة، ويعرف أن تعدد ضحايا القاتل، لا يقود إلى تعدد مرات إعدامه، ولأن ضحاياه قد بلغوا الآن عشرات الآلاف، فإن فرصه في التراجع، أو الاعتذار، أو طلب العفو تبدو شبه معدومة، ولهذا سيواصل النظام الهروب إلى الأمام، مرتكبًا المزيد من المجازر. المناعة الذاتية للأوطان هي الضمان الحقيقي، وربما الوحيد لأمنها، والشرعية أو القبول الشعبي العام هي أهم عناصر المناعة الذاتية لأي وطن أو أي نظام حكم، وقد تآكلت مناعة نظام الأسد بنفس مقدار تآكل شرعيته، وهو بدون عناصر نظامه، وأجهزة استخباراته وبعض عناصر الطائفة العلوية، يبدو فاقدًا لأية شرعية، أمّا عناصر المناعة التي تبقي على النظام في سوريا، فهي خارجية في معظمها، لا تستند إلى ولاء أو قبول، وإنما إلى مصالح تتبدل، وحسابات قوة تتغير مع الوقت. يبدو الموقف الروسي وكأنما هو الداعم الرئيس لنظام الأسد، لكن موقف موسكو يستند إلى مصالح تتبدل، وإلى حسابات قوة تتغير كما ذكرنا، وقد كشفت تسريبات عن محادثات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، ونظيرها الروسي سيرجي لافروف، أن موسكو قد تعيد النظر في موقفها من الأسد إذا ما أعادت واشنطن النظر في موقفها من الدرع الصاروخي، وقال لافروف عقب محادثاته مع كلينتون «مبدئيًا لا يوجد اختلاف في موقف روسيا وأمريكا. كلانا يريد أن تصبح سورية ديمقراطية ذات نظام متعدد يُحقّقه السوريون بأنفسهم مع احترام كافة الدول سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية». وهكذا يظهر الدرع الصاروخي الأمريكي على طاولة محادثات بشأن مستقبل سوريا، والمسألة ربما بدت منطقية، فروسيا التي تحتفظ بمحطتي رصد وتشويش في سوريا، تستهدف بين ما تستهدف، درع أمريكا الصاروخي في أوروبا، تريد المساومة على طريقة «سيب وأنا أسيب» أي أن تتخلى أمريكا عن درعها الصاروخي مقابل تخلي روسيا عن قواعدها في سوريا والتي سوف تخسرها حتما إذا ما سقط نظام الأسد. كذلك تريد روسيا ترتيب أوضاع سوريا من خلال مؤتمر دولي يتناول -بين ما يتناول- إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وهى الأوضاع التي أفرزتها حقبة سايكس - بيكو وما بعدها، فالعالم يستعيد خرائطه القديمة منذ سقوط جدار برلين، دول اختفت عن الخارطة ودول أخرى عادت إليها، وفي خضم هذه العملية فقد خسر السوفيت - الروس طوال الوقت في وسط أوروبا وفي البلقان، وحتى في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، وهم يريدون تقليص الخسائر، ربما عبر المدخل السوري. ويُدرك الروس أن سوريا قد تكون مفتاح إعادة هيكلة إقليم الشرق الأوسط برمته، فيما تعتبر طهران أن سقوط النظام في سوريا قد يُمهِّد الطريق لإجهاض طموحات إيران في المنطقة، بل إنه قد يكون مدخلًا لتوجيه ضربة أقل كلفة لإيران، طال الحديث عنها في الآونة الأخيرة، وسط إصرار إسرائيلي على إجهاض المشروع النووي الإيراني بأي ثمن، ليس فقط لأن قنبلة إيرانية سوف تكون فوق رأس إسرائيل، ولكن أيضًا لأن إجهاض المشروع الإيراني بيد إسرائيل سوف يُكرِّس استئثار الأخيرة بخيارات القوة في المنطقة برمتها. الوضع في سوريا إذن خرج من يد الأسد وعائلته، وبات رهين حسابات قوى دولية وإقليمية، تسلم جميعها -بما فيها إيران- بأن فرص النظام السوري باتت شبه معدومة، وأن ساعاته أصبحت معدودة. ما يثير الالتباس، ويدفع صديقي الكاتب الصحفي إلى الابتئاس، هو في الحقيقة، شواهد عجز لدى النظامين الدولي والإقليمي، برهنت عليها تصريحات الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأممالمتحدة والجامعة العربية إلى سوريا في مستهل مهمته قبل يومين، حين وصف المهمة بأنها بالغة الصعوبة، وعلق عليه الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي بقوله: «بل شبه مستحيلة».. لكن شواهد القدرة لدى الشعب السوري تقول بغير ذلك. [email protected]