تتواصل عروض الكوميديا السوداء في تونس، والتي أصبحت وسيلة الفنان والمثقف ليعبّر عن موقفه مما يحدث في تونس مؤخرًا، دون أن يضطر للصراع مع السياسي في نزال غير متكافئ، لتصبح سوطًا قويًا لمهاجمة الحماقات الاجتماعية والسياسية، دون الخروج عن حدود الأدب والذوق بل هي فسحة ليضحك التونسي، ولنسيان غلاء الأسعار وصعوبة الوضع الاجتماعي. لذلك نظم مسرح مدينة تونس مؤخرًا ولمدة ثلاثة أيام الدورة الأولى للمهرجان المتوسطي للكوميديا، اختار لها المنتج الثقافي أيمن الجوادي شعار «لنبتسم معًا «، في دعوة للابتسامة والضحك من الأعماق والتفاؤل بمستقبل فني كله أمل يضفي مساهمة جادة لإثراء المشهد الثقافي باختيارات فنية قريبة أكثر من الناس. لذلك وقع الاختيار على ثلاثة عروض من نوع «ألوان مان شو»، وهي مسرحية «مدام كنزة في اعتصام» لوجيهة الجندوبي، ومسرحية «التونسي كوم» لجعفر القاسمي، ومسرحية «مجموعة لاباس» لنوفل الورتاني. البداية كانت بمسرحية «مدام كنزة في اعتصام» لمحاكاة الواقع الاجتماعي التونسي عبر صرخة ألم يتخللها الأمل، وهذه المسرحية كانت أولى عروض المهرجان المتوسطي للكوميديا، حضرها جمهور كبير جاء كعادته لمشاهدة الممثلة وجيهة الجندوبي التي تميّزت بحضورها الركحي وأدائها المقنع لأغلب أطوار الخرافة والحكاية التي كتب نصها الفنان المنصف ذويب وهو كذلك مخرج العمل ويندرج العمل ضمن نوع المونودرام «وان مان شو». الممثلة وجيهة الجندوبي أبدت استعدادًا حركيًا رائعًا في حالة من الوفاق مع نص المسرحية فاستطاعت أن تُمتع جمهور المسرح البلدي بالعاصمة وتطلق ضحكات وابتسامات الحاضرين، وكأن الفنانة أحست بأن الجمهور بحاجة أكيدة الى الضحك للترويح عن النفس بعيدًا عن التجاذبات السياسية، فوحّدت الحاضرين فنيًا بشخصية امرأة الخمسين التي تروي خرافة معاناتها في الحياة وقسوة الزمن، فترحل بنا مكانيًا وزمنيًا عبر حكايتها (رحلتها) ومعاناتها مع ابنها ياسين الوحيد الذي حصل على شهادة عليا بعد رحلة عذاب أرهقت أمه لكنه ظل عاطلا عن العمل. مدام كنزة تسرد مأساتها وتفاصيل حياتها خاصة علاقتها الفاترة مع عائلتها ومن صباها بنظرة كلها سخرية تجاه الجميع إضافة إلى معاناتها الشديدة التي أرهقتها ورحلت بشبابها وصباها وهي معاناة تربية ابنها ودلاله الطفولي. العرض الكوميدي الثاني كان بعنوان «التونسي كوم» للممثل المسرحي جعفر القاسمي عن نص لنوفل الورتاني وإخراج للصحبي عمر وهي كذلك من نوع «ألوان مان شو» وكعادته استطاع الممثل القاسمي عبر اختياراته الكوميدية المدروسة والقريبة أكثر من التونسي نيل إعجاب الجمهور الحاضر بإقبال كبير بالمسرح البلدي، حيث أدخل عبر محاكاته واقعنا اليومي، وعلاقة التونسي بالعالم الافتراضي الابتسامة والضحك، بأسلوب كوميدي ساخر، فهو يتناول عالم التونسي بكل ما فيه من صبا وطفولة ترافقه في عالمه الغيبي فيذكر أغاني الطفولة وأحداثًا ووقائع لصباه، معظمها اشترك فيها أغلب التونسيين، لكن في ذات الوقت تستبطن أفكاره وأحلامه وحياته بكل ما فيها من انكسارات وانتصارات في رحلة زمنية ومكانية تغوص في اليومي والافتراضي أحيانًا للهروب من الواقع ومن قسوة الحياة والخوف من مواجهة تعقيداتها ومشاكلها. واُختتم هذا المهرجان الكوميدي بعرض مسرحية «مجموعة لاباس شو» إخراج الصادق حواسي وبطولة مجموعة لاباس التلفزيونية التي استطاعت رسم البسمة على شفاه المشاهدين وكانوا كذلك خلال عرضهم بالمسرح البلدي بالعاصمة عبر عفوية وتدخلات من الفكاهة والنقد الاجتماعي الساخر ومواقف هزلية أضحكت الجمهور الحاضر، وبرؤية فنية أخرى تقدم أطرف المواقف وأفضل اللقطات الهزلية والكوميدية، واستطاعت كذلك نيل إعجاب الحاضرين، لكن هذا النوع من الكوميديا يجلب المشاهد ويقدم رؤية فنية أخرى بعيدة عن المسرح وعن واقع ورهانات الفعل المسرحي الذي يبقى يحاكي نصوصه وإعادة إنتاج نفس الأفكار والمشاهد وتبقى المشكلة إيجاد نص مسرحي في ظل غياب إنتاج وكتابة نصوص تتماشى مع المرحلة الحالية التي يعيشها التونسيين، ومع ذلك يبقى عرض هذه المجموعة الشابة رؤية استشرافية نحو خلق جيل جديد من الكوميديين الشبان.