سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
النظرة إلى الفنون.. بين التعليم والواقع المعاش!
الفنون العالمية هي بالأساس فنون شعبية ومحلية جرى تطويرها لتتخذ صيغة عالمية وقد نبعت من الشارع والقرية والمدينة الصغيرة
الفن هو ممارسة بشرية قديمة قدم تاريخ الإنسان، فقد قام الإنسان بحدس مقومات الجمال في الطبيعة الخارجية الممتدة من حوله: في الشجيرات الوارفة الظل والزهور اليانعة بألوانها المتقزّحة الجذابة، وفي الطيور ذات المنظر الجميل وهي تحلق بحرية ليتمنى الإنسان أن يكون مكانها. وأيضا حدس الإنسان للفن في داخله: وهو ينطق بالأصوات ويلهج بالكلمات ويستخدم أصابعه في صناعة الأدوات والنقش في الصخور والكهوف والجدران. كانت هذه الممارسات البدائية في فجر التاريخ إعلانًا لتلازم الممارسة الفنية مع كينونة الإنسان، وهي الممارسة التي لا تزال حية اليوم في عصر الأجهزة الذكية المعقدة. هذه النزعة الفنية في تاريخ الإنسان لم تختفِ من جميع الحضارات بل تنوع مثل هذا الاهتمام وتعدد: ونجد أن تاريخ العرب مثلًا قد احتوى على سمات فنية تختلف عن اليونان والرومان وقبل ذلك نجد معايير أخرى عند الفراعنة والفرس والصينيين، فكل حضارة وثقافة مارست فنونها ضمن مكوناتها الخاصة ونظرتها الحضارية نحو الوجود. ولو تطرقنا للعرب لوجدنا أن فن الشعر قد احتل عندهم موقع الصدارة، فأفرغ فيه الشعراء جل طاقاتهم الشعرية، وأفرد له النقاد شتى المجلدات والكتب التي تنقد الغث وتبحث عن السمين، وفي العصور الحديثة دخلت فنون المسرح والرواية للأدب العربي، ومثلها وفدت فنون شتى كالرسم التشكيلي والفنون البصرية والسينما، بينما تعزز وجود فنون عربية بتجارب غربية كالموسيقى. وفي واقعنا السعودي، نجد أن النزعة الفنية لا تزال موجودة وحاضرة: يمكن اقتفاء أثرها في الشعر الشعبي والذي يقرضه الجميع تقريبا! وكذلك في الفنون الصوتية كالأناشيد الإسلامية والقصائد النبطية المغناة باللون الشعبي مثل الهجيني والسامري في نجد أو المقامات والأصوات الحجازية والرقصات الجنوبية، وهي كلها فنون لا يمكن إغفالها وتجاهلها. أما الفنون المحرمة في مجتمعنا كالسينما والغناء، فهي تحظى بمتابعة طاغية وجارفة قد لا أبالغ إن قلت إنها من أكثر الأمور متابعة بالإطلاق رغم فتاوى التحريم الصادرة إزاءها. وللمرء أن يستغرب أن مجتمعًا كمجتمعنا السعودي يعتبر السوق الرئيس الذي يصدر إليه الأغاني العربية وتؤسس كثير من القنوات للجمهور فيه. أما السينما فلا عجب أن تكون صالات العرض في دبي والمنامة مكتظة بالوافدين السعوديين لمشاهدة الأفلام المعروضة بالسينما هناك، بجانب توجيه الكثير من القنوات الفضائية المختصة بالأفلام بثها للجمهور السعودي وبمواقيته الدقيقة. ولنا أن نتساءل حول غياب هذه الأمور عن التعليم، لن أتحدث عن الفنون المحرمة فهذه لها موضع آخر، ولكن ماذا عن تلك الشعبية والمباحة: فالتعليم يفتقر بشكل كامل لتواريخ هذه الفنون وطرق ممارستها أو أبجدياتها التقليدية، وهو مسؤول عن الإلمام بماضي هذه الفنون واستشراف مستقبلها وسبل المحافظة عليها من الاندثار والاندراس. فالبعض يتصور أن الفن -أي فن- هو مسألة لهو ولعب وإهدار للوقت. بينما الواقع أن كثيرًا من الفنانين بمختلف اللغات والثقافات والمرجعيات قد كرَّسوا حياتهم بكاملها لإتقان صنف واحد من الفنون فقط، ولن أقول إتقان أكثر من فن فهذا من أصعب الأمور. إن جميع الفنون العالمية التي نشاهدها من حولنا هي بالأساس فنون شعبية ومحلية جرى تطويرها والرقي بها لتتخذ صيغة عالمية، وجميع الفنون الغربية المتسيدة على الساحة الآن هي فنون نبعت من الشارع والقرية والمدينة الصغيرة، فلا يوجد فن أفضل من فن، طالما أن الحدس المنتج للعمل الفني هو حدس صادق. وما لم تتطور الفنون في مجتمعنا وإن ابتدأت بداية شعبية ومحلية لتنطلق بعدئذ للإقليمية والعالمية فإننا سنواجه صعوبة في التعليم نفسه وفي الحياة نفسها وفي فهم طبيعة الإنسان التواقة للإبداع الفني بكافة تشعباته وتفاصيله الكثيرة: ويكفي القول إن التقنيات المعقدة تتوسل بالفنون الصوتية والبصرية والرقمية لإثبات وجودها على الساحة، فما كان منقوشًا في جدران الجبال قبل آلاف السنين وجد ضالته الآن في الآي فون والبلاك بيري حيث توجد ترسانة هائلة من الإبداعات الفنية الرقمية. [email protected]