أثار حديث معالي الفريق حمد العريفي على صفحات جريدة المدينة يوم الخميس الفائت 19 أبريل 2012م حول جلالة الإمام محمد البدر، آخر ملوك المملكة المتوكلية اليمنية (1904 – 1962م)، الشجون والذكريات حول مرحلة مهمة من تاريخ اليمن المعاصر، وهي مرحلة الحرب الأهلية خلال فترة الستينيات الميلادي، بين الملكيين بقيادة الإمام البدر، والجمهوريين المدعومين من قبل القوات المصرية. وواقع الحال فما أشار إليه معالي الفريق في حديثه حول شخصية الإمام البدر، ومدى تمتعه بروح متواضعة ليِّنة حتى مع أبسط الجنود صحيح بالمطلق، كما أؤكد على قوله بلسان الإمام من أنه كان ينوي أن يجعل من اليمن جنّة يحسدهم الناس عليها، لكون ذلك مما يقرُّ به الكثير من العارفين المعاصرين المقربين منه، وتؤكده شخصيته التنويرية، وطبيعة تدرج حياته السياسية. على أني في المقابل، وانطلاقًا من أمانة علمية وقرابة أسرية وشراكة سياسية، لا أستطيع أن أقرَّ بما أشار إليه معالي الفريق من تكرار زواج الإمام البدر وطلاقه كل يومين أو ثلاثة، إذ أن ذلك يستحيل فعلاً لمن كان في حاله ووضعه الحربي، ويصعب تحقيقه على من يعيش بين الجبال، وينام على أزيز الطائرات المصرية، وأصوات القنابل السامة والحارقة، كما أن زوجتيه لا تمتّان إليه بصلة دم أبدًا، وتقيم أرملته أم ولديه في بريطانيا منذ مغادرة زوجها إليها في أوائل السبعينيات الميلادي، حيث استكان لحالة التأمل حتى وفاته بها. لقد تمتع الإمام البدر بشخصية فريدة من نوعها، إذ كان شفّافًا في تعامله مع الآخرين، بسيطًا في نظرته للأشياء، مُحسنًا الظن دائمًا، وتلك كانت أحد ملامح مصيبته السياسية، حيث كان الإمام البدر - وخلال ولايته للعهد - أحد أهم المناصرين للرئيس عبدالناصر في مصر، مؤمنًا بنظرته التحديثية ورؤيته السياسية؛ كان باختصار ناصريًّا في أفكاره وتوجهاته، ميّالاً للمعسكر الشرقي من الناحية السياسية، في مقابل المعسكر الغربي الداعم للكيان الإسرائيلي، ودون أن يؤمن بمبادئ وأفكار اليسار، إلا ما كان متوافقًا مع التوجهات الإسلامية بما كان يعرف بالاشتراكية الإسلامية، أو اشتراكية أبي ذر بحسب تعبير بعض النخبة اليسارية، وكان لأجل ذلك أن حمل لقب الأمير الأحمر، وبخاصة من بعد زيارته لجمهورية الصين، وتأييده لإرسال بعثات طلابية إلى هناك. كان كل ذلك مدعاة لتوثيق علاقته بالرئيس عبدالناصر، على الرغم من توجس علاقة الأخير بأبيه الإمام أحمد، الذي ما كان يروق له أن يحكم مصر العروبة والفكر أحد أفراد العسكر، وهو ما وضح في كثير من مواقفه السياسية، التي أظهرت مدى انزعاجه من تولي الرئيس عبدالناصر لمقاليد الحكم في مصر، الأمر الذي وتَّر العلاقة بين الطرفين من جهة، ودعا القيادة المصرية إلى دعم تولي الأمير البدر مقاليد الحكم بمختلف السبل. وفي تلك الأثناء كان اليمن يعيش حالة من التموج السياسي بين مؤيد لتولي البدر، وآخر مؤيد لتولي عمّه الأمير الحسن سفير اليمن في الأممالمتحدة لمقاليد الحكم من بعد الإمام أحمد، وفريق ثالث عمل بصمت من أجل إعادة تفعيل العمل بميثاق دستور ثورة 1948م، وكان أحد أبرز قياديي ذلك الفريق السيد علي بن عبدالكريم الفضيل ورفيق نضاله السيد محمد بن أحمد الشامي ولفيف غيرهم من مثقفي وأدباء اليمن، الذين كانوا على تواصل مستمر مع بعض رجال الفكر والسياسة اليمنيين المقيمين في مصر خلال تلك الفترة. وكان مضمون توجههم يقوم على تصحيح مسار الحكم في اليمن ليعود حكمًا شورويًا انتخابيًا متوافقًا مع نظام حكم دولة الأئمة السياسي، الذي تشترط مدونته السياسية توفر أربعة عشر شرطًا فيمن يتولى الترشح لتولي أمر وواجبات الإمامة، على شرط أن يقبل المترشح للمنصب بكل ما ينص عليه دستور 1948م من تنظيم لصلاحيات وواجبات الحكم. على أن الأمر لم يصفُ لأصحاب هذا التوجه، حيث واجهوا معارضة قوية من قبل البدريين والحسنيين على حدٍّ سواء، وتم تشويه صورتهم لدى الإمام أحمد وولي عهده البدر من قبل الطرف الأقوى في السلطة وهم البدريون، الذين كانوا على ارتباط وثيق بالقيادة المصرية، غير المتحمسة لإعادة شكل دولة ثورة الدستور، خاصة وأن الدعوة إلى قيام نظام جمهوري بروح عنصرية، قد باتت واضحة لدى بعض القيادات البدرية، وهو ما أدى إلى انكشاف حالة الحرب بين بعض المقربين من البدر، وبين السيد الفضيل ومن معه من رفاقه المقربين، ليكون ذلك مدعاة لاتهام الفضيل بتسيير مختلف المظاهرات الطلابية، التي كانت تهتف بشعارات ضد مؤسسة الحكم في حينه، بهدف تحريض الإمام أحمد والأمير البدر على تصفيته ومن معه. وكان لهم ذلك حيث أمر البدر بسجن السيد علي الفضيل في داره المعروفة بدار البشائر، وسعى إلى استصدار أمر بإعدامه، لكن تدخل صديقه محمّد بن أحمد الشامي لدى الإمام أحمد، وتوضيحه الصورة قد منع قرار موته، وفكّ أسره، غير أن حالة الوعي السياسي بخطورة العمل الاستخباراتي المصري وتوجهات بعض الموالين لابنه العنصرية، قد جاءت متأخرة، إذ سرعان ما مات الإمام في ظروف غامضة، كما توفي السيد محمّد الشامي في نفس يوم وفاته إثر حادث سير غريب، ولم تمض أيام معدودات إلا وقام عدد من الضباط الأحرار مساء يوم الأربعاء 26 سبتمبر 1962م بالهجوم في آن واحد على منزل الإمام، وعلى منزل السيد علي الفضيل، وآخرين من القيادات السياسية في حينه. وكان قبل ذلك قد حرص تنظيم الضباط الأحرار على إدخال أستاذهم السيد الفضيل في مشروعهم الثوري الجمهوري، في محاولة أخيرة من قبلهم لاحتواء توجهه السياسي، لاسيما وأن عديدًا منهم يدين له بالفضل في تكوين رؤيته السياسية الأولى، حيث انتدب الضباط اللواء علي قاسم المؤيد لذلك الأمر، وفق رواية اللواء أحمد قرحش، لكن السيد الفضيل ظلّ متمسكًا بموقفه السياسي، فما كان منهم إلا أن اتخذوا قرارًا بالقضاء عليه تزامنًا مع القضاء على الإمام البدر. تجدر الإشارة إلى أن القرار بالقضاء على حكم المملكة المتوكلية اليمنية، وإنهاء حكم الإمام البدر، لم يُتخذ من قبل القيادة المصرية إلا بعد استياء الرئيس جمال من الأسلوب الذي عامله به الإمام أحمد حال وصوله بحرًا إلى بورسعيد. وفي ذلك يذكر السياسي السيد أحمد الشامي أن خطة استخباراتية بالاتفاق مع البدر، كانت تقضي باستئذان قائد الطائرة المُقلة للإمام من إيطاليا إلى الحبشة وصولاً إلى اليمن، بالتوقف في القاهرة بسبب عطل فني، وفي حينه يتم القبض على الإمام وفرض الإقامة الجبرية عليه، ليتولى مقاليد الحكم في اليمن ابنه البدر. وكان الإمام أحمد قد غادر اليمن إلى روما لتلقي العلاج من بعد تعرضه لمحاولة اغتيال سنة 1960م وهو في ردهات المستشفى العسكري بالحديدة؛ لكن الإمام أحمد لم تنطل عليه الحيلة، وأبدى موافقته المبدئية لقائد الطائرة، ثم وبعد أن اطمأن، أخذ بيد القاضي عبدالرحمن الإرياني (كما ذكر ذلك القاضي عبدالرحمن للسيد أحمد الشامي) وطلب منه أن يرافقه إلى مقصورة القيادة ليرى عظمة الخالق في طيران هذه الآلة، وحال دخوله المقصورة، طلب الإمام بلغة حازمة من قائد الطائرة العودة إلى روما، وعند بلوغه العاصمة الإيطالية استدعى الإمام السيد الشامي، وكان صديقًا مقربًا من البدر وبالتالي مواليًا للرئيس عبدالناصر، وقال له: «اذهب لصاحبك وأخبره أني سآتي إلى مصر». فانطلق السيد الشامي إلى القاهرة دون استفهام، وطلب من نائب الإمام السفير السيد حسن إبراهيم، ترتيب لقاء عاجل مع الرئيس جمال، وحين استفهم الرئيس عن مدى إمكانية زيارة الإمام لمدينة القاهرة، قال السيد الشامي متخلصًا: «إذا كنتم يا فخامة الرئيس في شرف استقباله في بورسعيد، وقدمتم له طلبًا لزيارة القاهرة، فربما سيوافق على ذلك». وفعلاً توجّه الرئيس إلى بورسعيد لاستقبال الإمام، الذي اعتذر عن النزول إلى أرض الميناء، فما كان من الرئيس إلا أن صعد إليه ومعه بعض رجالات دولته، لكن استقبال الإمام له كان فاترًا، حيث اعتذر عن القيام لمرضه، وفي تلك الأثناء بلغ الإمام أحمد أن الحاج أمين الحسيني وشيخ الأزهر عبدالرحمن التاج في طريقهما إليه للسلام عليه، فما كان منه إلا أن قام لهما قائلاً: «فأما الجهاد والعلم فيُجلّان» وأخذ يتبادل معهما أطراف الحديث متجاهلاً الرئيس ومن معه، وهو ما جعل الشيخان يطلبان الاستئذان سريعًا، ثم أراد الرئيس المغادرة، لكن الإمام أراد أن يُكمل رسالته العملية للرئيس جمال ولولده البدر فخاطب الرئيس وبلغة حازمة قائلا :»يظهر أنك والولد البدر قد نسيتم أن لكم ولليمن إمام». يذكر السيد الشامي أن ذلك كان حدثًا مفصليًا في علاقة الرئيس جمال باليمن وبالإمام البدر نفسه، إذ خرج غاضبًا مكفهرًا، وهو ما أتاح للدكتور عبدالرحمن البيضاني المدعوم من قبل أنور السادات، أن يتسيد المشهد السياسي في تلك الفترة، ويقود الرغبة المصرية لإنهاء الحكم الملكي في اليمن، وكان مؤدّى ذلك أن مات الإمام أحمد في ظروف طبية غامضة، وسار اليمن نحو مسار الانقلاب العسكري. ونتيجة لذلك التوجّه اشتعلت الحرب الأهلية في اليمن طوال ثمان سنوات بين القبائل الملكية المؤيدة لحكم الإمام البدر، وقوات النظام الجمهوري المدعومة من قبل القوات المصرية، التي انزلقت في حرب مرهقة، كانت لها نتائجها الوخيمة على مصر، وبخاصة خلال حرب 1967م أمام الكيان الإسرائيلي الغاصب. واستمرت أجواء الحرب الأهلية بين مدٍّ وجزر حتى اللحظة التي فشل فيها الملكيون في حصار صنعاء سنة 1968م، ووضح انشقاق الصف الملكي على نفسه مع أحداث مؤتمر صعدة، التي أرادت فيه بعض القيادات الملكية عزل الإمام البدر وتولية ابن عمه الأمير محمد بن الحسين ملكًا جديدًا، لكن ذلك على الواقع العملي لم يتحقق، وتكوّن بديلاً عنه مجلس أعلى للإمامة برئاسة الأمير محمد وعضوية عدد من القيادات الملكية ومنهم السيد علي الفضيل. ولم تستقر الساحة الملكية بعد ذلك، حيث زادت الاختلافات البينية، وشعر الإمام البدر بضعف قوته المفرط، فآثر إقالة الناس في خطاب شهير من بيعته، واعتذر لهم عن كل قطرة دم سالت، وقرر التوجه إلى بريطانيا للعيش بها، مغلقًا الأبواب على نفسه، حابسًا ذكرياته في جوفه، لاسيما وأنها قد حفلت بالعديد من الانكسارات الناتجة عن خيانة المقربين له، ابتداء من الرئيس عبدالناصر، مرورًا بالرئيس عبدالله السلال قائد حرسه الخاص، وانتهاء بوالد زوجته العميد يحيى الحرسي. هذه جملة من الأحداث، ولا يزال المشهد حافلاً بالكثير من الخفايا والأسرار، التي أرجو أن تتاح لها الفرصة في يوم من الأيام للظهور، ليتاح للدارسين التفكر فيها والاستعانة بها لتحليل فترة مهمة من تاريخنا المعاصر.