يعتمد النحات والفنان التونسي عبدالله أبو العباس على الخشب كخامة أساسيّة في أعماله إلى جانب عدد من المواد الأخرى، ويعتبره مادة جوهرية في النحت. ويقول: «الخشب مادة تحمل في طبقاتها عمر الشجرة والزمن وهي رمز للنجاة من الطوفان، لنأخذ مثلاً الباب والنافذة والقارب وهي صديقة الاكتشاف الأول النار دونها ما كانت النار... وهي اللوح الذي نكتب عليه». وحول ما اذا كانت الخامة تخيفه قبل الاشتغال عليها، وهل أنه يشعر أنه أمام بياض مربك، قد يدفعه الى صنع شكل عظيم كما يمكن أن يستحيل شيئاً لم يرغب في تكوينه، يوضح أبو العباس بأنّ «الخامة هي المادة قبل الفعل واستضافة الأثر الإنساني والفنان يحاول أن يحاور هذا المعطى وفق خبرة عملية وفكرية. ويضيف: «ككل محاورة فإن الشكل الحسي هو الأساس لأنه مدار الفكرة والخطاب التواصلي ولا أنكر أن الخامة مثلما تتوافق مع ميولي وانسجامي فإنها أحياناً تشكلّ لي فرصة لقاء مع اللاّمنتظر. أنها تعود بنا إلى اكتشاف مربك لحواسنا وقدرتنا على اختبار المعنى والبحث عن أسلوب تواصلي خارج المألوف. فمثلاً حينما تتصدع الرخامة في آخر لمسة أو تتشظى فإن النّحات يفهم جيّداً معنى الاستحالة وعمق اللّحظة التي تجد نفسك مجبراً وأسيراً لمبدأ البدايات والعودة إلى مدارات اللقاء البكر مع ذاتك وأحلامك». بين النحت والرسم ثمة من يعتبر النحت اصعب من التصوير أو الرسم، لما يتطلبه من اجتهاد بدني فضلاً عن تفعيل الحواس، وفي هذا الصدد يقول أبو العباس: «هذه الاشكالية تذكرني بطرفة من عمق تاريخ الفن وصاحبها مايكل انجلو حين سئل عن أيهما أهم وأجدى فن النحت أم التصوير والحقيقة السؤال كان وليد تنافس كبير بينه وبين عظيم آخر عاصره هو ليوناردو دافنشي فقدم إجابة رمزية تنتصر إلى فن النحت حيث قال «الرسم هو ظل النحت» وفي ذلك كناية عن عبقريته لكن وبعد قرون من الزمن ما زالت المتاحف تحفظ أعمال كل منهما وهذه دلالة على أن الأساس في الرسم أو النحت هو مدى أصالة الجانب التعبيري والفرادة وكذلك ذاتية الفنان». ويشير الى أن هذا التقسيم بين الفنون قد انتهى مع الفن المعاصر والفن المفاهيمي والتنصيبات، وتماهت الفنون وصار الفنان يشتغل على الموسيقى والنحت والنسيج والحفر والرسم والعمارة والتصوير الفوتوغرافي... أي كل ما يعطي صورة حسية أو ذهنية أو حتى ما يغيب الصورة أصلاً الأساس هو إعطاء فرصة للتواصل مع فكرة زائلة كانت أو أزلية. الموسيقى - النحت يتحدث أبو العباس عن الموسيقى - النحت، إذ يبدو أننا إزاء نحت بالموسيقى، أو موسيقى بالنحت، فهل استحالت أصابع النحات أوتاراً والأدوات محامل؟ يوضح أن ما يقصده بتداخل الموسيقى والنحت هو حالة حسية جمالية في علاقتنا بظاهرة الصوت والأشياء، «وأستند في هذه التجربة إلى مخزون ثقافي من عمق الصحراء ومن ذاكرة جنوبية ريفية. بالصوت تتعلم في الصحراء تذوق الألوان والثمار وتعرف زمن نضجها، نَقرأ كذلك حينما تَنقر على أديم الأرض وحصى الجبال وكذلك تجاويف الأمكنة لتعرف مواطن الماء، وبالصوت أيضاً تتواصل مع من لا يراك في الظلمة». ويضيف: «إنّ هذا التداخل بين حاستي السمع والبصر، واللسان هو قمة التجريد وهنا يمكن أن نفسر كتاب بول كلوديل «العين تسمع» أو التجارب التي حاولت البحث في إمكانية العلاقة بين الحجم والصوت. كان الجنوب دائماً ملهماً للشعراء والفنانين، ولكن لماذا تحمل الصحراء كل هذا الكم من السحر والانزياح نحو الجمال، يجيب أبو العباس: «سأحاول أن أجيب عن هذا السؤال من خلال عبدالله الجنوبي البدوي وعبدالله الأستاذ النحات، أولاً الصحراء هي فضاء يعلمك الكفاف واختزال السير نحو حقيقة الأشياء هي كنه حقيقة الأشياء من دون فلسفة فتكفيك مذقة ماء وبضع تمرات وراحلة كي تستمر الحياة أنك أنت من تصنع الحياة وتسمي عناصرها وتقيس معالم الحسن إلى عناصرها ولك الشعر الجاهلي نموذجاً. أما إجابة النحات فإنها إجابة على لسان صديق ألماني كان قد زارني رفقة عائلته واكتشفت معه صورة جديدة لفضاء كنت داخله وما برح داخلي أتذكر جيداً ما قاله لي: «حاول أن تترجم هذا الامتداد في البصر وهذه العلاقة المباشرة مع الأرض من دون حذاء أو إسفلت وكذلك رمضاء الرمل في أعمالك النحتية إنها لحظة وعي طبيعية جمالية بعلاقة الدال والمدلول في عملية التواصل الفني». الشعر منحوتاً وعن الطرق التي اعتمدها لترجمة الامتداد وانعدام المسافات في أعماله يؤكد أنّه سعى إلى ذلك إلى حدّ ما. لأن الفعل التشكيلي في رأيه يظلّ «محاولة لفهم الذات والتواصل مع وقائع وأغوار متحولة في الزمان والمكان. أحياناً تجدني في علاقة حميمة مع علامات تراثية ممعنة في القدم والماضي قد تعود إلى زمن ما قبل التاريخ وأحياناً أخرى أتخيل ملامح زمن قادم أو تعبيرات بكر لم تولد بعد وهذا هو الأساس وشرف كل فنان يطمح إلى الخلق والتأسيس والتجاوز شكلاً ومضموناً، إلى حدّ ما لأن الفعل التشكيلي يظل محاولة لفهم الذات والتواصل مع وقائع وأغوار متحولة في الزمان والمكان أحياناً تجدني في علاقة حميمة مع علامات تراثية ممعنة في القدم والماضي قد تعود إلى زمن ما قبل التاريخ وأحياناً أخرى أتخيل ملامح زمن قادم أو تعب». ويميل النحات التونسي في أغلب أعماله إلى موضوع اللغة والعلامات التواصلية وكل محاولاته تتنزّل ضمن هذا السياق كما يعجبه الشعر والصورة الشعرية التي تلتقي مع الصورة التشكيلية في عدة جوانب، وقد شرع في مشروع جمالي، هو قصائد بصرية وعبره تواصل مع عدة شعراء عرب وأجانب وهي التجربة الأكثر قرباً إلى ذاته - كما أكد - لأنها «تجربة مفتوحة تنتهي فيها كل حدود الاختلاف وتجد نفسك مع جوهر العملية التعبيرية مع الإنسان في المطلق في عشقه وهيامه ومقاماته الذوقية الروحية ورجع صدى من روحانية أزلية هي سرّ إنسانية الإنسان». هو ينحت قصيدة لا خشباً أو رخاماً ويرى أن فعل النحات والشاعر هو ذاته وإن اختلفت مادة التعبير، ويضيف: «لنا من تاريخ الفن عدة أمثلة تبين تقاطع النحت والشعر والرسم ويمكن أن أشير إلى ما كان يقوم به ارنست همنقواي الذي كان يذهب إلى المتحف ويتجول بين لوحات سيزان ومانيه ومونيه وغيرهم من الرسامين الانطباعيين، كذلك يمكن أن أورد مثالاً لهنري ماتيس وكيف كان يستمدّ رسومه من رقصة الفراندول في طاحونة غاليت والشعر المردد على ألسنة الراقصين، إن هذه الأمثلة تبين تداخل الفنون لدى التشكيلي نحاتاً كان أو رساماً لأن هدف كل فن هو اللذة الجمالية والحس الشاعري ومن هنا يمكن أن نفهم هذا الانزياح الذي أشرت إليه وهو جوهر اللحظة الإبداعية حينما قلت أنني انحت قصيداً لا رخاماً أو خشباً».