أعمال رجاء عالم.. كثير من روايات عبده خال.. يوسف المحيميد.. (شرق الوادي) لتركي الحمد -تحديدًا- (المنهوبة) لعواض العصيمي.. (الوارفة) لأميمة الخميس.. ..مثل هذه الأعمال تشرع نوافذ الأمل من جديد، وتستفز ذاكرة التلقي لانتظار لحظات شوق روائي أخرى على المرفأ الذي اعتدنا أن نستقبل فيه الحكايا الموغلة في الرواية حد الحقيقة والوجع. في لحظة ما من الزمن السردي تخيلتني أحشد كل مناظيري السردية وأدواتي النقدية الممكنة، لاحتفاء يليق باستقبال (رواية محلية) جديدة، لاترتهن الى المساحة الرمادية المتأرجحة بين الاحتمالات فحسب، بل وتجترئ على «استقصاء احتمالات السواد».. رمزًا لخصب الفضاء السردي وتوهجه، لتلج بعنف في فتنة (السرديات) الخالصة. هذه الرواية المتخيلة أزعم أنها تتوافر على ثيمات فنية وموضوعية يتكون من اتساقها معا (سقف) الوعي الروائي الجمالي لدي، لتنتصب في أعلى ذلك السقف بيارق رواية حقيقية ما. هذه الرواية السعودية/ الحلم أزعم أنها تتوافر على (الثيمات) الحاسمة الآتية: 1- هذه الرواية تتعاطى مع (الزمن) كما يعيش انسان مفعم بالحياة لحظته الحاضرة بكل زخمها الهائل من التجارب والمشاعر والأفكار، كأن هذه اللحظة الحاضرة غير قادرة على استيعاب الطاقات المتفجرة لتلك الذات المفعمة، فتنفتح هذه اللحظة قسرًا على زمن جديد خارج الزمن التراتبي المألوف، فيصبح الماضي في لحظة ما حاضرا والآني ماضيا.. وهكذا. أو لكأنك تقرأ في الرواية تاريخًا ماضويًا سبق أن قرأته مرارًا، ثم تشعر أنك تعيشه اللحظة بكل تفاصيله وأبعاده الحسية والمعنوية معا. الزمن في هذه الرواية يظل ثيمة لا نهائية أبدية تتبدل باستمرار التحولات والعلاقات. 2- وفي مقابل (الزمن) يتجلى (مكان) الرواية فضاء بكرا لم تطأه قدمان من قبل، فضاء ثريًا زاخرًا بالظواهر والأشياء ومثيرات الحواس والطقوس التي لا تشبه غيرها على الاطلاق، أو كأن ذلك المكان هو نفسه الذي نمر به جميعا صباحا مساء، ولكنه في هذه التجربة الروائية يبدو جديدا متطهرا من عبق روائحة العالقة منذ زمن سحيق، عاريا من ألوانه (الاصطناعية) المبتذلة، مجبرًا آلاته على الصمت من أجل استنطاق لغة الأحجار والجدران والنوافذ المشرعة لاستقبال النداءات السرية للكون الرحيب، وبذلك فإن فضاء الرواية يكتسب قيمته من ذاته، من ألوانه وروائحه وأصدائه وتجلياته. (خاص.. فقط) بشخصيات الرواية، إذ هو مكان يمتزج كثيرا بأصحابه ويتفاعل ثقافيا ووجدانيا معهم، ويتشكل من الأمشاج الأولى لصانعه التي لطالما أنهكها ذلك الفضاء بأصدائه وأمدائه وأحداثه، فأرادت أن ترتل حميا هذا الالتصاق المتوهج بالمكان الذي لايتكرر أبدًا. المكان في الرواية يأخذ من أسرار (سمرقند- أمين معلوف) وسحر دير الرهبان الذي جرت فيه أحداث (اسم الوردة- إمبرتو إيكو) وغرابة التضاريس على سفوح جبال التوندرا في منطقة الإسكيمو الجليدية التي برزت مدهشة في رواية (أغاغوك- إيف توريو)... 3-أما على مستوى الصيغ السردية فإن الرواية يغيب فيها -تماما- صوت المؤلف الحقيقي أو أي صوت مهيمن آخر مع تلك التعددية (البوليفونية) التي تتوافر على صيغ سردية عديدة تتجاوز حتى الأنماط المتعارف عليها في أساليب السرد (ما بين راو عليم ومتكلم فاعل). إذ نجد في الرواية مزيجا هائلا ومنسجما في اللحظة ذاتها من (الأحداث الواقعية التقليدية التي تشكل المتن الحكائي- الخطاب الداخلي المضطرب للاوعي الباطن للشخصيات- خطابات وشعارات سياسية وعلمية ومثيولوجية متنوعة- أنماط حكائية تمتزج مع البنية الأساسية للسرد من أحلام وروايات وأفلام سينمائية وقصائد شعرية- سرد العرض الحواري لشخصيات يختلفون في لغاتهم وثقافاتهم وأفكارهم). تشظي بانورامي حقيقي، أفضى الى عالم روائي فني، كأن الذي صاغة عدة مؤلفين عبر أزمان عديدة وعصور سحيقة. كما أن بين عناصر البنية الروائية توجد دائما علاقات حوارية. فكأنها -كما يقول باختين عن الفعل الروائي لدستوفسكي- «قد جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الأعمال غي عمل موسيقي ضخم». ..شئ من الصيغ السردية لروايتنا/ الحلم نجد مقاربًا له قريبًا هناك في سردنا العربي لدى صنع الله إبراهيم في روايته (أمريكانلي) وهو لا يكتفي بتنوعات صيغنا السردية السابقة، مضيفًا إليها صيغ سردية أخرى (تراجم- نظريات علمية وحقائق معرفية- تقارير صحفية- سيرة ذاتية..) وهذه التعددية البوليفونية هي ذاتها التي نجدها لدى ميلان كونديرا في كتابه (فن الرواية) والتي أسماها ب (التضاد الروائي)، الذي هو لديه مزيج من اتحاد الفلسفة مع القصة والحلم، لتنبني معظم رواياته -بالفعل- على مستويين (الحكاية التي عبر عنها الشكلانيون الروس بالمتن الحكائي، والثيمات السردية التي هي عبارة عن تساؤلات وجودية، ليست في النهاية إلا فحصا لكلمات وأسرار وقيم وعلاقات..). 4- والرواية من خلال كل ذلك تقدم إدراكا فلسفيا جديدا للكون والانسان والحياة، متجاوزة الحاجات البسيطة، لبحث مؤرق عن أسرار الوجود وعلاقات الموجودات ببعضها، وللنظر الى المألوفات الطبيعية من زوايا متحولة مغايرة، والى الإنسان عاريًا من زيفه (السلوكي) ووعيه (الظاهر) في اتجاه الأنساغ القصية للاوعي، ليكون التعبير عن ذلك التجلي الفلسفي بذات الشفافية والصدق التي تمت بهما الاستجابة الأولى للحظة كونية غامرة بالخصب والدهشة.. كما كان يتجلى نيكوس كازانتزاكس أبدًا في آثاره الخالدة كلها (المنشق- زوربا- تقرير الى غريكو- القديس- تصوف). كازانتزاكس في انهماكه الدائم في الآفاق العلوية وارتهانه الفاخر الى عالم يبدو قريبا وبعيدا في اللحظة ذاتها، مفعم برائحة الورد والاكليل الجبلي والنباتات المبتلة للتو بندى الصباحات. 5- وهذه الرواية/ الحلم وهي تقدم ذلك الادراك الفلسفي رهين الآفاق العلوية تستجيب فقط ل (شخصيات) تنسجم بالضرورة مع تلك اللحظات الكونية الغامرة, مختارة النماذج البشرية غير المألوفة، القادرة على الولوج في المفازات الأكثر سموًا وألقًا، المستفزة دائما بالظواهر والحقائق، مطلقة في كل مرة نداءات الخلاص والاكتشاف والدهشة. شخصيات الرواية تتألق في إقامة علاقات جديدة مع القضايا المصيرية للانسان، حياته وموته وحبه وهويته، فنشعر أننا أمام نماذج بشرية وغير بشرية في اللحظة ذاتها في تمازج فني محترف ما بين الواقعي والغرائبي، الحقيقي والتخيلي.. شخصيات هذه الرواية تحمل كثيرًا من سمات (غرنوي) العجيب في رواية (العطر- زوسكيند) و(زوربا) الحكيم العبثي في رواية (زوربا- كازانتزاكس)، ولا تبتعد في اللحظة ذاتها عن شخصية (خاتم) في رواية (خاتم- رجاء عالم) الغارقة في التناقضات الاجتماعية، المشتتة بين جنسين وعالمين في بحث مضن عن هوية أخرى تجد فيها الشخصية المتشظية تلك ذاتها الحقيقية وجسدها الضائع بين جنسين وسياقات اجتماعية متوترة.. 6- أما لغة الرواية فهي لغة الامتزاج بين الشعر والنثر.. الواقع والأسطورة.. المفردة الذاتية والخطاب الجمعي.. الحلم والحقيقة. لغة لا تستسلم لمفردات الواقع النثري بل أنها تضفي على تلك النثرية ألقا طقوسيا لغويًا، لإقامة هالة شعرية سامية (تموسق) مألوفات الحياة، وتتناسب مع إيقاع الروح وهي تعانق الموجودات في لحظة إشراقية صوفية من التوحد والتجلي، مستندة على طاقة ذوقية خفية غامضة الانبعاث والتأثير. لغة تقع على مسافة قريبة ومتعالقة مع لغة رجاء عالم وإدوار الخراط وهاني الراهب.. يبدو أن الحلم قد طالت تفاصيله كثيرًا، إذ لابد اللحظة من الاستيقاظ/ الصمت تحريًا لواقع روائي حقيقي، قد ينهض به أحد كتّابنا الحاضرين منهم، أو الذين لايزالون في لجة الغياب. * 24 فبراير 2012م [email protected]