(1) .. من جديد.. ارتأيتُ أن تكون البداية التي أستهلها معكم في مفازة (الأربعاء) الموضوع ذاته الذي طارحته مديدًا في مفازتي (الوطن) و(الحياة) سابقًا.. «الرواية السعودية»، وقد استفزني إلى مشاغبتها اللحظة تلاشي القيم الفنية (إيّاها) في عمل روائي جديد، هو (وجه النائم) للكاتب عبدالله ثابت.. والذي يؤكد (من جديد) ما ذهبت إليه في نثارات، كنت أجوس فيها قفار الفقر الموجع للقيم الروائية في أعمالنا السردية، باستثناء مَن ينتمون بوعيهم المعرفي الفني الخلاق، وبأدواتهم القصصية الناضجة إلى أحد المستويات الروائية الثلاثة في مشهدنا الروائي [المستوى الأول الذي تهيمن على مداراته الروائية رجاء عالم منفردة بلا رفقاء]، [والمستوى الثاني الذي يحتله بجلاء روائيون ثلاثة هم عبده خال، وعواض العصيمي، ويوسف المحيميد]، [والمستوى الثالث الذي يتناوب على التحليق في فضاءاته أسماء روائية محددة هي (ليلي الجهني، وتركي الحمد -بشروط الرواية الواقعية-، ومحمد حسن علوان، وأميمة الخميس، وصلاح القرشي).. ها أنا أقارب معكم المشهد بالذي يلي.. (2) * ليس عابرًا قول كاروثر ذات تجلٍّ روائي: «الرواية ينبغي أن تقدم إدراكًا فلسفيًّا للكون والإنسان والحياة»، وليس بعيدًا عن كل لحظة سردية خالصة استثارة مغيّبات الوجود لوعي كونديرا وهو يقول: «الرواية التي لا تكشف جزءًا من الوجود لا يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقية.. كل رواية لابد أن تقول لقارئيها إن الحياة أكثر تعقيدًا ممّا تظن»، وقطعًا فإن (الهائل) تودوروف كان يتحدث عن كيان أدبي خالص وعميق وميتافيزيقي عندما كان يقول: «إن الأدب منذ عهد هوميروس وإلى الآن هو أعظم ثقافة إنسانية، لأنه يعلمنا باستمرار كيف هو الإنسان؟ وكيف تكون حياته؟؟». فلوبير (العجيب) كان متماهيًا كثيرًا مع تلك الرؤى، وهو يجد في فضاءات الرواية منهمكًا في اكتشاف أرض بكر لم يطأها أثر». مارسيل بروست (ساعة الزمن الروائي الجديد) لطالما كان ينطلق في رحلة فنومولوجية مؤرقة بحثًا وراء جوهر الإنسان وعلاقته مع ماضيه السحيق. (زوربا الرواية).. نيكوس كازانتزاكس كان رهينًا للأسئلة الوجودية الكبرى التي تقود قارئها إلى عالم يبدو قريبًا وبعيدًا في اللحظة ذاتها، مفعم برائحة عجيبة لأرض خالصة حتى يجعلك -بلا إرادة- تتنبه بحس فطري إلى أصغر الأشياء التي يمكن أن تمر بها صباح مساء من دون أن تعبأ بحقها في التموضع الوجودي للأشياء. ولن نبتعد عن تلك الأطياف عندما ننتقل بمناظيرنا السردية -بعد ذلك- صوب أمداء لا متناهية في آفاق الرواية المضادة السحرية الناهضة بنداءات كتاب أمريكا الجنوبية ثم الروائيين الجدد في اليابان وتركيا نماذجًا! (3) .. ليس عابرًا كل تلك البيانات النقدية والإبداعية عندما يأتي الحديث عن رواية ما، ولكن في اللحظة ذاتها نستيقن أن شيئًا عابرًا يرحل سريعًا عن ذاكرة المتلقي عندما نستحضر -اللحظة- إنتاجنا الروائي المحلي خلال العقدين الأخيرين اللذين برز فيهما الفن الروائي كأكثر الأجناس الأدبية تعاطيًا وشغبًا في المشهد الثقافي العام، بخلاف بعض النماذج التي أخلصت في إثبات أثر ما في الذاكرة الروائية الجمعية (رجاء عالم في مجمل إنتاجها، والطين وترمي بشرر لعبده خال، وشرق الوادي لتركي الحمد، وأخيرًا المنهوبة لعواض العصيمي والقارورة ليوسف المحيميد، ثم أطياف لأعمال أخرى تحوم حول حمى الرواية توشك أن تقع فيها بين الحين والآخر: ليلى الجهني، وصلاح القرشي، ومحمد حسن علوان، وأميمة الخميس). ما عدا ذلك كان مستسلمًا للرغبة البريئة في البوح التلقائي لمشاعر ظلت قابعة في أقاصي الذات المنهكة منذ أمد، ثم قدّر لها فجأة أن تُمنح الفرصة للظهور والعرض فرحة بإطلاق ترانيمها الأولى، التي تمحورت حول انتقاد عالمها المتسلط، رغبة في تعريته وكشفه ثم تجاوزه. هذا الاستسلام الانفعالي، إضافة إلى النظرة لكثير من الحقائق والآفاق المطلقة على أنها تابوهات محرمة أفضيا بالمشهد الروائي في ثقافتنا المحلية إلى اختزال مخل للمظاهر الكونية والإنسانية في الآفاق ذاتها التي بدأنا بها هذه المقاربة، وإلى فقر فني ومعرفي أنتج أعمالاً حكائية بسيطة على مستوى الصياغة والتقنية، لا تتفاعل مع ثراء التفاصيل، ودهشة اللحظات، ومرجعيات ثقافية، وسياقات جمالية ونصوص أدبية وفنية شتى، لتدور رواياتنا المحلية حول (بارادايم) لغوي تقليدي يذكرنا بنموذج بوهلر إيّاه الذي حصر فيه وظائف اللغة -في سياق عمومي آخر- في ثلاث وظائف رئيسة «انفعالية تهتم بمرسل الرسالة، وإفهامية تتجه إلى المرسل إليه، ومرجعية تهتم بسياقات النص التاريخية والاجتماعية» هذا النموذج النفعي للرسالة اللغوية -المتجرد من أية اهتمامات جمالية وإيحاءات فنية واشتغالات تقنية ورؤى علوية تتناسب مع ثراء النص اللغوي التغريبي المنحرف دائمًا عن معيارية الأقانيم- هو ما تعالقت معه الرواية السعودية (حتى الآن) هادفة إلى تعبير (مصيري وحاسم) عن الذات الموجوعة بحاجاتها المفقودة، وإلى الرغبة الهائلة في إيصال أكبر عدد ممكن من الرسائل التي يمكن أن تعيد لها أهم تلك الحاجات بتواطؤ مع سياقات تاريخية واجتماعية لضمان إبلاغ الرسالة بشكل واضح وجلي. (4) وهذا ربما يفسر لنا تمحور الرواية المحلية حول شخصيتين رئيستين، ليس سواهما أصدق تعبيرًا عن تلك الذات المقهورة بتشكيلات متنوعة: ** شخصية المرأة في رحلتها المتأزمة للبحث عن زمن يعيد لها حضورها وفاعليتها (صبا: الفردوس اليباب - ليلى الجهني، لطيفة: جروح الذكرة - تركي الحمد، غزالة: فيضة الرعد -عبدالحفيظ الشمري، منيرة الساهي: القارورة - يوسف المحيميد، سديم وميشيل ولميس وقمرة: بنات الرياض- رجاء الصانع، وسعوديات سارة العليوي). ** شخصية المثقف -ومعه الفرد المغاير للنسق الجمعي- في مهمتهما الحاسمة لإيصال تلك الرسائل المعلوماتية التوعوية الإصلاحية المتجاوزة (فؤاد: شقة الحرية - غازي القصيبي، هشام العابر: أطياف الأزقة المهجورة - تركي الحمد، خالد: كائن مؤجل - فهد العتيق، ناصر وحسان في روايتي سقف الكفاية وطوق الطهارة لمحمد حسن علوان على التوالي). ويبين لنا أيضًا سبب ارتهان الرواية السعودية عامة إلى ثلاثة أشكال رئيسة: [الرواية الرومانسية الشعرية] التي تنبثق من كثافة العاطفة الشعورية، محاوله أن تعبر بذات الكثافة (الانفعالية / وظيفة بوهلر الانفعالية الأولى) عمّا يكتنز داخلها من توترات نفسية هائلة و»فيض تلقائي لمشاعر صاخبة») كما يقول كولردج منذ زمن الرومانسيين الأوائل، و[الرواية الاجتماعية] التي يزعم كتابها أنهم قادرون على الكشف عن المسكوت عنه في العلاقات الاجتماعية المتوترة (وظيفة بوهلر الإفهامية الثانية). ولكن تلك المسكوتات المزعومة تظل في الحقيقة ظواهر جلية مألوفة في الظاهرة الاجتماعية لا تستفز المتلقي الخالص بدهشة مصادفة المسكوتات الحقيقية المغيبة، و[الرواية الواقعية التاريخية] التي تنطلق من حصيلة معرفية وافرة ووعي خالص بحركة التاريخ وتأثيراته على البنى الاجتماعية (وظيفة بوهلر الإفهامية والمرجعية / الأولى والثانية معًا). وبالتالي، فعندما تتأطر المشاهد السردية في تلك القوالب الصلدة، فيكون النص غير قادر على خلق مسافة للتوتر بينه وبين الأنماط اللغوية والمعرفية المألوفة يظل المشهد دائمًا خارج نطاق (اللعبة) الفنية، بعيدًا تمامًا عن فضاءات الجمال الخالصة. (5) .. وبعد، فما الرواية إن لم تكن إدراكًا فلسفيًّا جديدًا للكون والإنسان والحياة، وشخصيات مغايرة تستجيب في كل مرة لنداءات الخلاص والاكتشاف والتعرّي، وزمنًا جدليًا ديالكتيكيًا متحولاً ومتفاعلاً مع ديمومة التحولات، وبوليفونية حوارية تتوافر على صيغ سردية كثيرة تتجاوز نمطية أساليب السرد المألوفة، منفتحة على خطابات وصيغ إشراقية وميثيولوجية وأدبية وثقافية شتى ؟؟! .. حقًّا فكل رواية لابد أن تقول لقارئيها: «إنّ الحياة أكثر تعقيدًا ممّا تظن».