حينما أنهيت دراستي الجامعية، عقدت العزم على الذهاب إلى وزارة العمل؛ لكن زملائي أوضحوا لي أننا نتخرج من وزارة التعليم العالي ونتقدم إلى وزارة الخدمة المدنية لنتعيّن في وزارة التربية والتعليم، وحين سألت والدي قال: (المدرسون تبع وزارة المعارف)، فكثرت شكوكي، وحين اهتديت، عرفت طريقة مراجعة الدوائر الحكومية وكتابة المعاريض وفهمت جيدًا معنى عبارة (لإكمال اللازم)، وحين صدر قرار تعييني تلقيت التهاني والتبريكات من الأهل والأصدقاء وعدد من زملاء الدراسة السابقين الذين لا يزالون على قوائم الانتظار، بعضهم يجمع النقاط من التدريس في المدارس الأهلية ومعاهد الخدمات، وبعضهم يرثى لحظه العاثر في اختيار التخصص، في حين انطلقت كالبرق ليحط اسمي في مدرسة بقرية نائية قريبة من الحدود مع دولة مجاورة، فرحت وفرح الأهل وسمعتهم في البيت لأول مرة ينادوني تعال يا أستاذ، وفي صباح اليوم التالي كانت الطائرة تحط بي في مطار إحدى المدن الحدودية، وحين خرجت من المطار في ذلك الصباح قابلتني عاصفة باردة حاولت أن أخفف من وقعها بالمرور بجوار الجدران وسيارات الأجرة التي ترتفع أصوات سائقيها وهم يحاولون جذب الركاب بلهجة لم أكن أعرفها، وحين تحاورت مع أحدهم تجمهر الآخرون حولي وهم يستمعون إلى كلماتي وينظرون إلى ملابسي وأدواتي التي لا تدل على أني قادم إلى هذه الديار، وحين استقر بي المقام في حوض السيارة (الونيت) النيسان وأخبرني صاحب الفروة الذي بجانبي أننا سوف نسير ثلاث ساعات عبر الإسفلت، وبعدها نسير ساعتين عبر طرق صحراوية غير معبدة عرفت حينها أنني أوغل في أمعاء هذه المتاهة، وتذكرت قصص جدتي عن السعالي والأغوال ووصايا أمي بأن أسلح نفسي بكذا وبالمعوذات، وحين تزودت ببعض المستلزمات التموينية من بقالة إحدى المحطات كنت أرسم صورًا عدة للمكان الذي سوف يستقبلني هناك والزملاء الذين سوف أكون معهم وكنت أحلم وأحلم لدرجة أنني كنت أسمع أصوات التلاميذ وهم يرددون الأناشيد، ولم يقطع شريط هذه الأفكار سوى هدوء حركة السيارة وتوقفها لينزل السائق قائلاً: لو سمحتم (الشغلة محتاجة دفة).