تثار بين الفينة والأخرى قضية قيادة المرأة للسيارة، وكثُر المطالبين بإحقاق هذا الحق الذي يعتبرونه مؤجلًا للمرأة السعودية، وفي الجهة المقابلة تكاثرت حجج المعارضين لمثل هذا الحق تحت دعاوى وذرائع كثيرة معظمها ذات منطلقات تقليدية ومجتمعية. ليس هدف هذا المقال مناقشة هذه القضية تحديدًا، ولكن قبل أيّام قليلة شهدت مدينة حائل مأساة وفاة ثمانية طالبات في سيارة نقل خاصة، ومقتل سائق السيارة الأخرى، وهو أيضًا معلم قضى نحبه على خطوطنا الإسفلتية. ووقف كاتب هذا المقال بنفسه على حادثة مرورية شنيعة وقعت أمام عينيه، وفقد فيها زميله إحدى ساقيه نتيجة لوجود «حفرة» عميقة في الطريق صادف أن هذا الزميل تعثر بها، وسلم منها كاتب هذه السطور بالصدفة! الغريب أن مثل هذه المشكلات التي تقتل عشرات الآلاف من الناس سنويًا لا تجد من يتطرق لها بصورة جدية مثلما يهوى البعض السجالات والمشاغبات الفكرية والتي هي أقرب ما تكون إلى التنفيس السيكولوجي ليس إلا. بحسب إفادة اللواء فهد العجلان مدير الإدارة العامة للمرور في السعودية فإن عدد السيارات الخاصة بالأفراد يصل إلى ثمانية ملايين سيارة وبمعدل نمو 700 ألف سيارة سنويًا! مع ملاحظة أن المرأة لا تقود السيارة إلا في حالات نادرة جدًا، وفيما لو سمح لها بهذا الأمر وبشكل رسمي فإن العدد قد يتزايد إلى الضعف، مع الإحاطة علمًا أن هذا العدد الهائل من السيارات له ضريبته الاقتصادية (لأن السيارات كلها مستوردة وكذلك قطع الغيار وهي تستنزف المليارات من اقتصاد الدولة) وله ضريبته الاجتماعية (عدد الحوادث الهائل الذي يصل لثلاث مئة ألف حادثة سنويًا والذي يتسبب بحالات وفاة أو إعاقة أو خسائر مالية) وضريبته على الدولة (إهدار متفاقم للطاقة البترولية بسبب استهلاك السيارات الخاصة المتزايد). مثل هذه القضية قد لا تثير اهتمام كثيرين، لأنها لا تخضع للتسليط الإعلامي المستمر، كما هو حال القضايا السائدة والمقتولة نقاشًا وبلا طائل، فلو قلنا إن بعض النساء طالبن بقيادة السيارة لوجدنا أن معظم الوسائل الإعلامية المحلية والعالمية تتسابق لتغطية مثل هذا الحدث الجزئي الصغير ومحاولة تضخيمه والترويج له على أنه قضية أمة بكاملها، بينما لو احتجّت مثل هذه النساء من أجل وجود نقل عام يغنيهن عن قيادة السيارة من أساسها (السيارة التي باتت تسبب صداعًا للرجال قبل غيرهم.. بسبب مخاطرها وكلفتها الباهظة وصيانتها المزعجة) ولو قمن بالمطالبة بوضع حلول جذرية لأزمة النقل بكاملها، ولو أردن أن يقتصدن بطاقة البلد ويتقشفن أسوة بغيرهن من نساء ورجال العالم الخارجي، لما وجدن أذنًا صاغية ولما التفت أحد لمطالبهن أو إسماع أصواتهن، فهن ببساطة لن يجلبن أية إثارة أو دعاية ولن يشعلن أية فرقعة إعلامية مُدوية! ليس هذا الكلام انتصارًا للتقليديين من هواة قمع المرأة في المجتمع، ولكن علينا أن ننظر للمشكلات الداخلية بمنظور أعمق من التسخيف الأيديولوجي المعتاد: فلو قادت المرأة السيارة لتسبب هذا الأمر بمشكلات أكبر (لأن الرجل فعل ذلك قبلها وشاهدنا النتائج بأعيننا) ولتزايد أعداد السيارات وأصبحت النتيجة الطبيعية وجود حوادث أكثر وخسائر أكبر، بينما الحل الطبيعي لمثل هذه المشكلة هو تخفيض عدد السيارات بشكل عام إلى النصف أو أكثر، ومحاولة إيجاد بديل للنقل الخاص يتمثل بالنقل العام ووسائله المنتشرة حتى في أفقر دول العالم الثالث، وفسح المجال أمام شركات الطيران المختلفة للتنافس على تسيير الرحلات لمدن الداخل بدلًا من احتكار شركة الخطوط السعودية للمجال الجوي دون غيرها. إن محاولة الاعتماد على النقل الخاص فقط وحصره على جنس ذكوري واحد لن يؤدي إلا للمزيد من التدهور في مجال النقل والمواصلات، وإلا فكيف نُفسِّر كوننا أكثر بلدان العالم قتلًا للبشر في الطرقات؟! لقد قال أحد الأصدقاء الأعزاء وهو الأستاذ فهد النصار: إن الرجل السعودي يدفع حياته بكاملها وهو يحاول جاهدًا أن يحل أزمتين لا يلوح في الأفق حلهما السريع، وهما أزمتا النقل والإسكان. لعل الأستاذ فهد كان صادقًا في ما يقوله، ولكن علينا أن نقول بالمقابل إن مثل هاتين المشكلتين لا يفترض أن تمثلان أزمة لبلد بحجم ومكانة وإمكانات المملكة العربية السعودية.