داخل ساحة السجن يحاول نجم الكوميديا عادل إمام محامي النظام الفاسد اللحاق بكرة قدم مسرعة قبل أن يدركها زميله محامي الجماعات الإسلامية، لكن مخرج فيلم «طيور الظلام» يقرر إسدال الستار ووضع كلمة النهاية، قبل أن يعرف جمهور المشاهدين أيهما قد لحق بالكرة أولًا، فالنهاية مفتوحة والسباق ما زال قائمًا، ويغادر الجمهور قاعة العرض وهو حائر لا يعرف النتيجة، لكنه بالتأكيد بات يعرف أن السباق الرئيسي يخوضه طرفان أحدهما ينتمي بالمصلحة إلى نظام جرى استعراض ألوان الفساد فيه طوال الفيلم، والثاني ينتمي إلى فصيل محسوب على الدين، لا يبالي بغير المنفعة والربح. كلا الفصيلين، فصيل السلطة وفصيل التمسح السياسي بالدين يجيدان «اللعب بالبيضة والحجر» ويؤمنان بالمبدأ النفعي «اللي تغلب به العب به». قواعد صراع «طيور الظلام» هي ذاتها القواعد الحاكمة للصراع السياسي الذي أعقب الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، مع اختلافات طفيفة لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج مغايرة ما لم تحدث مفاجأة من طرف ثالث، استعذب الغياب، وتلذذ بالشكوى، واكتفى بالاعتصام في بيته فوق «الكنبة»، مشاركا بالهواجس والظنون أو بالأماني والأحلام، دون أدنى محاولة للنزول إلى الملعب وخوض السباق واستخلاص الكرة من بين أقدام الفصيلين. في المرحلة الأولى من المشهد الانتخابي المصري بدا وكأن حزب الكنبة قرر نزول الملعب، وبدا وكأن طوابير الانتظار الطويلة أمام صناديق الاقتراع هي تعبير عن قرار شعبي نهائي لا رجعة فيه باستخلاص الكرة، وإعادة رسم قواعد اللعبة مجددًا وفق مبادئ وأسس جديدة، لكن النتائج قالت غير هذا، فدوافع مغادرة الكنبة كانت «طائفية» في أغلبها بعدما هيمن التحريض الديني على أجواء الانتخابات، أو إدارية في جانب منها بعدما تقرر فرض غرامة ثقيلة «نسبيا» على المتخلفين عن المشاركة في التصويت، وهكذا فكثيرين ممن غادروا الكنبة إلى طوابير المشاركة فعلوا ذلك بفعل التحريض الطائفي أو توقيًا لدفع غرامة مالية لا يطيقها من يتخلفون عن التصويت. الذين نزلوا إلى طوابير الانتخاب، لم ينزلوا إلى ميادين التحرير التي أسقطت رأس النظام ومهدت الطريق للانتخابات، ولم يحملوا بالضرورة أفكار الثورة التي لم تصل إليهم بعد بفعل فاعل، ولأن الرؤية والفكرة لم تصل بعد إلى الغالبية الساحقة من بين أكثر من خمسين مليون ناخب يشارك معظمهم في التصويت لأول مرة، فقد كان سهلا اقتياد بعضهم إلى خيارات لا يعرفونها ولا يفهمون منها سوى أحد أمرين، فإما أن هذا الحزب أو ذاك المرشح حلال أو حرام!، وإما أن التصويت لأي شخص وأي حزب سوف يكون كافيا بذاته لإعفاء الناخب من دفع غرامة التخلف عن التصويت (خمسمائة جنيه)!. ولهذا جاءت نتائج انتخابات المرحلة الأولى مفاجأة للبعض، حتى بالنسبة لقوى الإسلام السياسي التي لم تتوقع الحصول على هذا العدد الكبير من مقاعد البرلمان في أول انتخابات برلمانية بعد ثورة يناير. حتى العسكر الذين تولوا تهيئة البلاد للعملية الانتخابية فاجأتهم النتائج، فيما كانوا يحاولون تصحيح ما اختل من موازين وحسابات سياسية، لكن مراسيم العسكر، ووثائقهم الحاكمة أو الضابطة للجم هيمنة الإسلاميين على عملية إعداد دستور جديد للبلاد، ما زالت تصطدم بحقيقتين، شارك العسكر في تكريسهما منذ البداية. الأولى: حقيقة أن ثمة إعلان دستوري أعلنه العسكر ورحبت به قوى الإسلام السياسي، فيما قبلته سائر القوى الليبرالية على مضض، هذا الإعلان الدستوري يوكل إلى البرلمان المنتخب بمجلسيه (الشعب والشورى) مهمة اختيار الجمعية التأسيسية (لجنة المائة) التي تتولى وضع دستور جديد للبلاد، يخشى العسكر والليبراليون والأقباط وحتى قطاع لا بأس به من (حزب الكنبة) أن يقود إلى تكريس هيمنة قوى الإسلام السياسي على السلطة في البلاد إلى أجل غير منظور. والثانية: حقيقة أن نتائج التصويت في المرحلة الأولى للانتخابات التشريعية والتي شملت تسع محافظات بينها القاهرة والإسكندرية، وتشمل أكثر من سبعة عشر مليون ناخب، جاءت بانتصار كاسح للتيار الإسلامي (أكثر من 62%) لجماعة الإخوان (حزب الحرية والعدالة) والسلفيين (حزب النور السلفي)، وأن هذا الانتصار الكاسح ينقل بدوره موازيين القوة من شارع يضم كافة التيارات إسلامية وغير إسلامية، وكذلك من مجلس عسكري تحكمه ثقافة مدنية غالبة، إلى برلمان يهيمن الإسلاميون على ثلثي مقاعده. لقد أدار العسكر -حتى الآن- عملية انتخابية شهد العالم بنزاهتها، لكن صناديق الاقتراع توشك أن تضعهم بدورها داخل صندوق محكم الغلق، إن حاولوا كسره كسروا الوطن كله، وأمامهم نموذج الانتخابات الجزائرية مطلع التسعينيات، وان استسلموا لسجنه خسروا الدور والتأثير وباتت مؤسستهم العملاقة القوية أسيرة قرار سياسي تحركه المشاعر وليس المصالح والحسابات. ما يحاوله العسكر عبر أدوات الحكم (وثائق ومراسيم بقانون)، وما تحاوله القوى الوطنية غير الإسلامية عبر صناديق الاقتراع في المرحلتين الثانية التي بدأت أمس والثالثة التي تبدأ بعد أسبوعين، هو محاولة لتركيب كوابح قوية في عربة وطن بات الإسلاميون على وشك قيادتها، فالنتائج حتى الآن قد برهنت على أن ثمة فارق كان ينبغي الالتفات مبكرًا له، بين حرية الاختيار، وبين الوعي بالاختيار، وحتى الآن يبدو أن استشعار ناخبين بسطاء لذة ممارسة «الاختيار الحر»، كان أعلى بكثير من إدراكهم لضرورة «الاختيار الواعي» وهذا الأخير بدا حضوره شاحبًا مع نخبة فضحت ممارساتها بعد ثورة يناير حقيقة أنها «معتلة»، وإعلام أبدى ميلًا مراهقًا لاستنفاذ رصيده من الحرية في ممارسات لا تصون الحريات في النهاية، وجماهير جرى تجريف وعيها على مدى عقود عبر نظام تعليمي يعترف الجميع بانعدام كفاءته. الجماهير التي خرجت من قاعات العرض حائرة بعد مشاهدة فيلم «طيور الظلام»، ما زالت على حيرتها، وبعضها قد أرهقته المشاهدة حتى بات لا يبالي إلى أي قدم سوف تذهب الكرة في مصر، أما العسكر فثمة هواجس لديهم من أن يقود صندوق اقتراع جرى الذهاب إليه على طريقة «دعونا نجرب»، إلى وضعهم في صندوق لا يملكون وحدهم مفتاح الخروج منه.