ببساطته في الكتابة استطاع الدكتور محمود بلعيد أن يبني مدينة من الكلمات، وبموهبة في القص تجعلك تشمّ روائح مدينة تونس بأزقتها الضيّقة وإيقاعها وسطوحها وترى الأعشاب الثابتة بين الجدران، وأن يجعل للكلمة روحًا وإيقاعًا، وبالحروف يعيد بناء مدينته التي ولد فيها وبالتحديد «باب الخضراء» العتيق، والقريبة من عيادته الخاصة بطب الأسنان، حيث يتجاور الطبيب مع المبدع ويتلازمان حيث يقضي معظم وقته يكتب ويبدع سرده وحكايته بداية بمجموعته القصصية «أصداء المدينة»، و»عندما تدق الطبول»، و»القط جوهر»، و»حب من نوع خاص»، و»عصافير الجنة»، نهاية برواية «لوز عشاق».. هذه الإسهامات أهدته أكثر من تكريم آخرها من نادي القصة من مؤسسة أبوالقاسم الشابي.. عيادة ومكتبة «الأربعاء» زار بلعيد في عيادته حيث توجد مكتبته وأدراجها التي تحكي سر قصص لم تنشر بداية من فترة الستينات والسبعينات.. فعن تكوين هذه المكتبة وابرز العناوين فيها يقول القاص محمود بلعيد: كونت هذه المكتبة منذ كنت في الثانوية عندما كنت شابًا، وكنت أشعر بسعادة كبيرة عندما أمر بنهج تباع فيه الكتب القديمة لشرائها بثمن زهيد لتكوين مكتبتي، ومازلت لليوم أحتفظ بعدد لا بأس به من الكتب، أي بعد نصف قرن، ثم مع مرور الأعوام وخروجي إلى فرنسا لطلب التخصص في طب الأسنان تمكنت أيضًا من جمع العديد من الكتب الزهيدة، كونت خلالها مكتبة يصعب عدها، فقد جمعت جميع الدواوين بداية من الشعر العربي، والأغاني القديمة، وألف ليلة وليلة، وجميع الأمهات، وعدد هائل من الروايات العربية بداية بكتب طه حسين، وكامل أعمال ميخائيل نعيمة، كما لي في هذه المكتبة مجموعة كبيرة من الكتب العلمانية، ولا توجد مزاحمة فكل كتاب مرتب في مكانه؛ مثلًا كتب الطب والأدب وكذلك القرآن الكريم.. ويمضي بلعيد في حديثه عن مكتبته مضيفًا: أعود إلى كل هذه الكتب عند الحاجة وعندما أضع «ميدعتي» البيضاء بعد قيامي بعملي كما يجب كطبيب، فأنا مغرم بمطالعة الكتب العربية والفرنسية، وأعتقد أن لي ثقافة لا بأس بها في ميدان الأدب الفرنسي، كما أستطيع أن ألائم بين الأدب العربي والأدب الفرنسي؛ فهي مشارب مختلفة تمتعت بها من خلال هذه المكتبة المتنوعة والثرية، والتي لم يغريني عنها الكمبيوتر الذي استعمله للكتابة فقط؛ أي أكتب رواياتي لتكون جاهزة للطبع، فالقراءة عبر الكمبيوتر شيء متعب ومرهق إلى أبعد حد، وبالمقابل أجد متعة في ملامسة ورق الكتب.. وحي داخلي وخارجي ويمضي محمود بلعيد كاشفًا عما جذبه للقصة، وعن الأعمال التي هزته ووقف أمامها مطولًا قائلًا: دفعت للكتابة رغمًا عني، لأنني كنت أتمتع بالأدب عندما كنت أدرس في الثانوية، بالاطلاع على ما يكتبه الكتاب العرب كجبران خليل جبران، ومخائيل نعيمة، وطه حسين؛ فهذا الأخير مهّد لنا نحن الطلبة الفهم وسهل مهمتنا، ولذلك له الفضل في دفعي للكتابة، وكأن هاجسًا كان يقول لي منذ الثانوية أنه سيأتي يوم وسأكتب وسأصبح أديبًا بكل عفوية، حيث كنت في داخلي وكأنني أهيئ نفسي للكتابة، وبقيت لأعوام أتسلح بالقراءة وبالمطالعة لجل الأدب العربي والأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي الذي أتقنه أيضًا، ثم أخرج بعيدًا إلى الأدب الأمريكي، فهذه المتعة لا مثيل لها سهّلت عندي مغامرة الكتابة.. فبت أشعر بأن هناك مزيجًا بين الهواية والرسالة؛ أي أشعر بدافع يدفعني للكتابة، لا أقول سوف أكتب اليوم، بل تحضرني الفكرة، يحضرني أبطال وأعيش ذلك من خلال نظرة أو مشاهدة في الحي أو أي مكان آخر، أشعر بدافع يدفعني، أو أسمع حدثًا أو أقوالًا تقال ومن ذلك أشعر بتركيبة كأنها تركيبة أدبية فأندفع للكتابة، الكتابة بالنسبة لي وحي يأتي من الداخل ومن الخارج في الآن نفسه.. لوز عشاق وينتقل محمود بلعيد بالحديث عن آخر أعماله الروائية «لوز عشاق» وهي مسرحية في الآن نفسه قائلًا: يمكن تحويل أبطال رواية «لوز عشاق» إلى أبطال متحركة في حديقة شاسعة خاصة وأن المحور عبارة عن حفل سيقام في آخر الأسبوع، وكل العملة يتهيئون، ينظفون المكان لاستقبال الضيوف الذين سيأتون من الخارج، فكانت كل تلك التحضيرات والكل كان يتحدث بشأن ما يهمه في ما يتعلق بهذه الزيارة في حوار متشابك متداخل بين جميع الأبطال والبطلات مثل ما تقوم به «طنبوبة» المسؤولة عن المطبخ التي كانت تلتقط الأخبار توزعها بين العملة، مستغلة علاقتها الجيدة مع إدارة المؤسسة، وفي ضوء ذلك يبنى حوار هذه الرواية والحركية حتى النهاية.. في انتظار فجر جديد ويختتم محمود بلعيد حديثه واصفًا حال الرواية التونسية بقوله: الجميع يعلم أن الدكتاتور السابق في تونس لا تهمه الثقافة ولا يهمه شيء غير المال، وإذا نظرنا إلى ما يوجد الآن في كامل البلاد فعدم الاعتناء كان لا مثيل له، فالناس تعيش في ضنك العيش في بلاد تستطيع أن تقوم وتصنع حياة كريمة في كل الديار والمدن والقرى والأرياف.. فما بالك بتواجد تقصير في حق الكتاب الذي يروج في شكل ارتجال وهو مشكل يعرفه الجميع وما نتمناه في المستقبل في ظل ما تعيشه تونس اليوم أن يتم الاهتمام بالكتاب وتوزيعه بشكل أفضل من السابق، وأنا متفائل كثيرًا أنه سيقف على ساقيه وينتشر أكثر في شمال إفريقيا وفي الوطن العربي..