رغم أن الفناء هو قانون الوجود الأساس وهو الحقيقة الكونية الأولى، إلا أن موت المتوفين من الأحبة وهم، رغم كل ما يصاحبه من ظواهر تبدو كحقائق. الموت الحقيقي هو أن يموت المرء داخلك، وهذا أمر ليس له علاقة بعملية الموت المرتبطة في أذهاننا بتوقف مظاهر الحياة في الجسم. الموت الحقيقي قد يدرك الأحياء الذي ما زالوا يشاطروننا وجودنا في صيغته المشروطة بقوانين الزمان والمكان وكل العناصر والقوانين الأخرى التي يتشكل منها وجودنا الدنيوي. أما من نطلق عليهم أمواتًا فهم لا يموتون إلا ليمارسوا داخلنا حضورًا مختلفًا قد يكون أكثر تأثيرًا من حضورهم السابق وقت أن كانت أجسادهم تنبض بالحياة التي نعرفها في صيغتها البدائية.. أعني الحياة الدنيا. عندما أهلت التراب على أبي ومعلمي وحبيبي وصديقي قبل أيام، أحسست أن علاقتي به قد اتخذت طابعًا آخر، وأن وجوده في حياتي وإلى جانبي قد تعمق في وعيي ولا وعيي وإن كان قد امتنع عن المثول للبصر. أبي وحبيبي الذي صارع المرض لمدة سبع سنوات متواصلة أليمة أصبح الآن روحًا، والروح الطاهرة التي علمتني كل ما هو خير، أبت أن تحتفظ في الذاكرة والخيال بتلك الصورة التي صاحبته أثناء المرض والتي تعودت على رؤية تطوراتها السيئة على مدار سبع سنوات. الروح الشفافة الآن انتقت ما يناسبها، ولأنّ الروح لها التأثير الأكبر، فقد عادت إلى ذاكرتي ومخيلتي صورة أبي القديمة عندما كان يملأ البيت وكل مكان يحل فيه بهيبته المقرونة بابتسامته كان يحرص على أن يزرعها على شفاه الأطفال قبل أي أحد آخر. كان أبي أو (الرجل الباسم) كما كان يطلق عليه الشاعر والأديب المصري الراحل كامل الكيلاني صديق صديقه الأديب وشيخ الخطاطين العرب الراحل سيد إبراهيم، لا يحرص على شيء في الحياة قدر حرصه على تصدير الابتسامة وصناعة الفرح للآخرين وفي مقدمتهم الأطفال.. كل الأطفال.. سواءً أولئك الذين تربطهم بهم صلة قربى أو أولئك الذين لا تربطهم به حتى صلة معرفة. والعجيب أن الصلة الروحية التي جمعته بالأطفال، لم تستمر طوال حياته فقط بل رافقته إلى حيث يرقد جسده الآن تحت التراب، حيث دُفنت إلى جانبه طفلة ارتبط اسمها بأهم الخصائص التي اشتهر والدي بصناعتها: فرح. لا.. لم يمت أبي.. لقد توفاه الله.. لكنه لم يمت في قلوب كل من عرفوه. إنه يمارس منذ وفاته حياة من نوع آخر. ذكراه التي تتشكل من صور جميلة ومشاهد حبيبة وقيم نبيلة وحديث عذب، ليست حية وحسب في نفوس محبيه، ولكنها تكبر وتنمو كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. كيف لي أن أقول بأن هذا الرجل قد مات وكل التفاصيل المتعلقة به ماثلة أمام عيني طوال الوقت..؟ وكيف لي أن أقول بأنه مات وكل خير في نفسي ما كان ولن يكون لي أن أفصله عن تعليماته وسلوكياته التي استلهمت منها معنى الاعتداد بالنفس، والتسامح، والحرص على قول الحق، والبعد عن النفاق، والتصدي للخطأ، وعدم تقبل السائد فقط بحجة أنه سائد. رحمك الله يا أبي، ورحمنا في ظل هذا الغياب المموّه الذي تمارسه منذ أن غادرتنا. إنه غياب أقرب إلى الحضور.. ولكنه حضور غير مكتمل يا أبي.. إنه حضور له خصائص الغياب!