التعايش مع قانون الفناء صعب ، وأصعب منه التعايش مع قانون الفقد . ليس هناك إنسان مهما بلغ من قوة ، قادر على أن يتعايش مع قانون الفقد بسهولة . الفقد يعني أن تفقد جزءاً مهماً ومحبباً جدا من ذاتك نفسها . حضور الأحباء لا نتلقاه من خارج ذواتنا ، إنه جزء لا يتجزأ من كياننا ووجودنا . ومع غياب الأحباب تتقلص مساحة وجودنا ويصاب كياننا بالنقص الذي قد يصل إلى حد الفقر .. لا مجرد الافتقار . الفقد ينهشنا لكنه لا يقتلنا ، والفضل يعود لإرادة الحياة فيما يتبقى لنا من قدرة على الصمود . لولا إرادة الحياة لأجهز علينا الشعور بالفقد نهائياً ، ولولا أن زرع الله في البشر غريزة حب البقاء ، لقضت علينا الأحزان التي تخلفها فينا جراح الفقد وتنقشها على جدران ذاكرتنا ووجداننا . بعد فقد أبي أحسست أن ثمة تعديلا كبيرا طرأ على تكويني . أنا لم أعد كائنا من لحم ودم فحسب .. لقد أصبحت كائنا من لحم ودم وتراب .. ولا أدري حقيقة إن كان حيز التراب في تكويني أصبح الأكبر أم أن اللحم والدم ما زالا يحتفظان بالأولوية ..؟ كل ما أعرفه أن تراب أبي الذي أهلته عليه بيدي ، أصبح يستوطنني ويحيا بداخلي حتى لم أعد أستطيع التمييز بين ما يمشي على الأرض وما هو جزء منها ، بين ما فوقها وما تحتها . أتراني مت وانا لا أشعر ..؟ أم أن الموت أصبح يحيا بداخلي بعد أن مات جزء من الحياة بداخلي ..؟ ما هذه الخبرة المستعصية على الوصف ..؟ وما هذا الشعور المركب الذي جمع بين الموت والحياة وعقد بينهما اتفاقية صلح تمكنا بموجبها من ممارسة العيش المشترك ؟! قبل موت أبي لم أكن أعلم أن للموت خصائص من ضمنها الحياة ، ولم أكن اعلم أن للحياة وجوها عديدة من ضمنها الموت ! شيء عجيب يا أبي ..! أترحل وانت ما تزال مقيما فيّ ..! إذن كيف رحلت ..؟ أم تراك اخذتني إلى جوارك ..؟ ترابك ما زلت أشم رائحته ، رئتاي ما زالتا تمتلئان به .. فأين أنا ..؟ هل أشاطرك لحداً هو أشبه بالمهد الذي شهد ولادتك الثانية ، أم أنك تشاركني أنفاساً فوضتني أن أستشنقها بالنيابة عنك ؟! ما أقربك إليّ يا أبي .. وما أبعد المسافة عنك .