لقد أثار حفظيتي ذاك الخبر الذي سقته في المقال السابق عن أولئك التجار، الذين لا همّ لهم إلاّ كسب المال، وإن كان على حساب مخالفة الدين، والبُعد عن الأخلاق الكريمة، وعن الأعراف التي توارثناها جيلاً بعد جيل، فديننا وأخلاقنا وأعرافنا كل ذلك كان يحثنا على إكرام الحاج، وإحسان وفادته، ابتغاء الأجر من المولى عزّ وجل، فهو ضيف ملك الملوك. ذاك الخبر جعلني أستعرض صور إكرام الحاج عبر تاريخنا العربي العريق، حتى في العصر الجاهلي، كان إكرام الحاج شرفًا يتسابق إليه أشراف مكة، ومن ذاك أن سقيا الحجيج ووفادتهم كانت من مفاخر بني هاشم، حيث صارت إلى بني عبدالطلب، واستقرت في بني العباس حتى بعد الإسلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حين وقف بين عضادتي الكعبة فقال: «ألا إن كل دم، أو مال، أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين، إلاّ سقاية الحاج، وسدانة الكعبة فإني قد أمضيتها لأهلها على ما كانت عليه في الجاهلية». وهكذا استمر العباس -رضي الله عنه- وبنوه في خدمة زمزم، وكان يتحمل تكاليفها. إلى جانب أنهم كانوا يسقون الناس اللبن والعسل والسويق، أي أنهم كانوا يتفننون في خدمة ضيوف الرحمن، وتقديم أفضل المياه، وأفضل الطعام لهم، ما يعينهم على أداء فريضتهم، وفرق بين صنيع هؤلاء وصنيع أولئك التجار الجشعين اليوم. واستمر خلفاء بني العباس محافظين على هذا الأمر، حتى في حال انشغالهم بأمور الدولة كانوا يوكلون هذا الأمر لمواليهم مع إشرافهم على الأمر. وهكذا ظلّت خدمة الحجيج خلقًا راسخًا في أخلاق المسلمين يمثل قيمة روحية وفكرية وأخلاقية راقية. وكم سمعنا عن محافل الحجاج كالمحمل الشامي، والمحمل المصري، وكيف كان الأمراء والتجار يسهمون في تجهيزه، احتفاءً وإكرامًا لحجاج بيت الله الحرام. بل إنه في عصر المماليك كان السلطان هو الذي يعيّن أمير الحج كل عام، وكانت مهمته اختيار زمن التحرك، وسلوك أوضح الطرق، وترتيب الرَّكب في المسير، والنزول والحراسة، وقتال مَن يتعرض للقافلة. ولعل من أشهر أمراء الحج في عصر المماليك (سلار) نائب السلطنة عام (703ه)، وقد عمَّ على يديه الخير والرفاه للحجاج، وقد أنعم عليهم بالنعم الكثيرة، والعطايا الجزيلة، ما جعلهم يرفعون أكفهم داعين له (يا سلار كفاك الله شر النار). ألا يريد هؤلاء التجار أن يكون لهم شرف كشرف (سلار)، وأن يكسبوا دعوات الناس لهم، بدل أن تدعو عليهم. إن دعوة الحاج لها صداها عند المولى عز وجل، فهو مسافر، وهو حاج، وهو ضيف الرحمن، وهو صاحب مظلمة إن تم غشه والتدليس عليه. وإذا ما أدرنا عقارب الزمن، واقتربنا من عصر آبائنا وأجدادنا لوجدنا في أهل مكة والمدينة وجدة المثل الأعلى في خدمة الحجيج. متمثلا في نظام وكلاء الحجاج والطوافة والأدلاء، حيث يصبح الحاج وكأنه فرد من أفراد العائلة، ويظل في رحاب الخير والوفادة الكريمة حتى يعود إلى دياره. ولعل من طريف ما قرأت أن أهل مكة في يوم الوقفة يهب جميع الرجال لخدمة الحجيج، فيذهبون إلى عرفة، حتى لا يبقى غير النساء والأطفال، ويسمون هذا اليوم بالخُلِّيف، حيث تخلو الديار والطرقات من الرجال، وتتولى النساء المهام من شؤون الأسرة والحراسة.. وأظرف شيء أن النساء لو وجدن رجلاً متخلفًا عن الذهاب إلى عرفة، فإنه سيلقى ما يُبّرد جلده على أيدي النساء اللواتي يوسعنه ضربًا، لتقاعسه عن الذهاب مع الحجيج. والآن بفضل الله نجد كثيرًا من أهل الخير من أفراد ومؤسسات تسعى وتتسابق لخدمة الحجاج، إكرامًا لهم، وطلبًا للمثوبة من المولى عز وجل. ولا يخفى على ذي عينين ما يحظى به الحاج في ظل الدولة السعودية من إكرام من خلال المشاريع الضخمة، والسهر على راحته ليل نهار. لكن الذي نأمله أن لا يسمح لأمثال أولئك التجار الجشعين الذين فرطوا في الأمانة أن يشوّهوا هذا الوجه الجميل لخدمة الحجيج الذي يتشرف به أهل هذه البلاد وحكامها، فلابد من الضرب على يدهم بيد من حديد، تردع العابث منهم والمستهين بأمر الحجيج.