تجربة انتخابات المجلس التأسيسي في تونس ليست حدثًا داخليًا يخص التونسيين بل قضية لها ارتدادات على المحيط العربي بقدر ما كانت ارتدادات الشرارة التى أطلقها «بوعزيزي» لتنير سماء دول الربيع العربي.. من تونس خرجت ثورة «الياسمين» وكانت الشرارة الأولى للحراك العربي المستمر. ومن صناديق الاقتراع في شتى ولايات تونس خرج الدرس الأول فى التحول الديمقراطى والتداول السلمي للسلطة ومن تونس أيضًا بات على القوى السياسية الجديدة التي ستخوص العمل السياسي لأول مرة أن تتعلم الدرس وتعيه وخاصة التيارات الإسلامية المطالبة بدراسة وتقييم خطي «النهضة التونسية» حتي لا يكون مصيرهم نفس مصير الانقاذ في الجزائر أو الجبهة الإسلامية في السودان وطالبان أفغانستان. ومنذ نجاح التجربة التونسية في الانتخابات التأسيسية التي جرت بعد نجاح ثورة الياسمين في تونس وإسقاط حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، ويتواتر سؤال محوري في الساحة العربية.....هل التجربة التونسية قابلة للتكرار في دول الربيع العربي وخاصة في مصر وليبيا اللتان أسقطتا نظامي مبارك والقذافي وتستعدان للدخول فى الخطوات التنفيذية للتحول الديمقراطي مع خلافات جوهرية في الممارسة والتطبيق... مصر اختارت الاتجاه المعاكس للمسار التونسي حيث اعتمدت برنامجًا ينطلق من إجراء الانتخابات أولًا وهو الأمر الذي كان محور خلاف بين القوى السياسية المصرية وتم حسمه عبر الاستفتاء الشعبي الذي أقرت الأغلبية قبول إجراء الانتخابات أولًا رغم ما يعتريها من مشاكل وتعقيدات قانونية وإجرائية، وقد تدفع بمصر إلى إجراء 6 انتخابات في فترة زمنية تقل عن العامين في حال قيام لجنة ال 100 والمخولة بإعداد الدستور بإلغاء نصوص في الإعلان الدستوري والذي تجري بمقتضاها الانتخابات البرلمانية والرئاسية مثل إلغاء نسبة ال 50 % للعمال والفلاحين ويعني إلغاء هذه المادة إبطال مجلسي الشعب والشورى المقبلين، وكذلك في حال اعتماد الدستور الجديد النظام البرلماني بديلًا للنظام الرئاسي الذي ستتم بمقتضاه الانتخابات الرئاسية التي تستعد لها مصرالآن. ويثير فقهاء القانون هذه المخاوف لأن حدوثها سوف يدفع بمصر إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بموجب الدستور الجديد ويكلف ذلك الكثير من النفقات التي تتعارض هذا مع الظروف الاقتصادية التى تعيشها مصر الآن، ولكن الأمر مختلف في التجربة التونسية التي اعتمدت منذ البداية التحرك نحو صياغة دستور جديد ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بموجبه، وهو الأمر الذي أقره أيضًا المجلس الانتقالي الليبي الذي يسعى إلى تشكيل لجنة تأسيسية لصياغة الدستور بعد تشكيل حكومة مؤقتة وحتى تتم الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ليبيا بنهاية المرحلة الانتقالية. النهضة والإخوان منذ إعلان نتائج انتخابات الجمعية التأسيسية في تونس، سارعت حركة النهضة إلى فتح باب المشاورات مع باقي الكتل التي يمكن أن تشارك معها في الحكومة المقبلة، ويرى مساعد وزير الخارجية المصرى الاسبق وسفير مصر الاسبق فى تونس السفير عز الدين شكري أنه منذ نجاح الثورة التونسية وبدء الإعداد للانتخابات تتصدر حركة النهضة المشهد السياسي فى تونس وان نتائج الانتخابات التونسية عكست تصدر النهضة للمشهد السياسي رغم الموقف العدائي ضدها من قبل معظم القوى والأحزاب الليبرالية والقومية واليسارية فى تونس التى حملت عنوانًا عريضا اسمه «محاربة النهضة»، وأن «النهضة» حرصت على التأكيد، منذ اليوم الأول على إطاحة نظام الرئيس بن علي، أنها تستلهم النموذج التركي في الحكم ليس لتونس وحدها بل للعالم العربي ،وتسعى لاقامة دولة تتناغم فيها القيم الإسلامية مع القيم الديموقراطية المعاصرة وظلت ولا تزال تتمسك إلى اليوم بهذا الخطاب الذي شكل عماد خطها الدفاعي في مواجهة خصومها الذين حذروا من مجيء الإسلاميين إلى الحكم تحت مزاعم الخوف من هدم كل المكتسبات الحداثية وحقوق المرأة التي بدأ بناؤها من أيام الحبيب بورقيبة إلى يوم رحيل بن علي، وأن النهضة مازالت تجدد كل يوم حرصها على قيادة حكومة وفاق مع كل الأطراف، ووجهت أكثر من رسالة طمأنة إلى الداخل والخارج بخصوص هوية البلد، أو بالأحرى هوية النظام، مؤكدة أنها ستعتمد اقتصاد السوق، وتداول السلطة عبر صناديق الانتخاب. وأضاف أنه أيًا كان خطاب النهضة فإن تجربتها لا يمكن أن تكون على غرار تجربة «طالبان» في أفغانستان ولن تكون على مثال تجربة «جبهة الإنقاذ» في الجزائر المجاورة، أو تجربة السودان، وأنها لن تستطيع القفز فوق حقائق تاريخية راسخة طبعت المجتمع التونسي على رغم الاستبداد الذي عاناه تبقى تونس مجتمعًا متقدمًا يزخر بأعداد وافرة من الخريجين وحملة الشهادات العليا، ويتشكل مجتمعها ألوان طيف سياسي متعدد يضم تيارات إسلامية وليبرالية ويسارية، وهيئات مدنية ونقابية لم يستطع النظام السابق تطويعها بالكامل، واشار إلى أن النهضة تتبنى قانونًا عصريًا للأحوال الشخصية يضع المرأة التونسية على قدم المساواة مع الرجل.. وتدعو الى ربط اقتصاد البلاد باقتصادات أروبا، خصوصًا في قطاعي السياحة والصناعات الخفيفة التي كانت تساهم فى توفير آلاف الوظائف ليد عاملة رخيصة لآلة الصناعة الأروبية. نجاح التجربة التونسية ليس معزولًا عن نجاح الاسلاميين فى مصر وليبيا يرى عز الدين إن نجاح الانتخابات في تونس لن يكون معزولًا عن مستقبل الحراك الإسلامي في الانتخابات المصرية حيث الصراع مفتوح على مصراعيه ولن يكون معزولًا عن توجهات الإسلاميين في ليبيا ، كما أن مسيرة الحرب على نظام القذافي رسخت دورًا كبيرًا للمقاتلين في صفوف الإسلاميين، سواء كانوا من صفوف الإخوان أو من صفوف الجماعة المقاتلة بقيادة عبدالكريم بلحاج الذي قاد حملة تحرير طرابلس إضافة إلى أن الصراع على السلطة في ليبيا بدأ مبكرًا وطغت عليه الصبغة الإيديولوجية. وانتهى شكري الى القول بأنه إذا نجح النموذج التونسي، هل تبقى ثمة فرص أن يقدم اليمن أو سورية نموذجًا آخر؟ وتبقى الإجابة رهينة بالتحول السياسي فى تونس ومن بعده فى مصر التى تستعد الآن لانطلاق النموذج الثاني فى التحول الديمقراطي فى دول الربيع العربي، وربما يتناقض النموذج المصري مع النموذج التونسي فى المسارات وقد يصلان إلى نفس النتيجة التي ثار الشعبان من أجلها فى البلدين. مخاطر وتحديات مصرية تعد الانتخابات التشريعية المصرية التى من المقرر إجراؤها في 28 نوفمبر الجاري اختبارًا حقيقيًّا للتحول الديمقراطي والإصلاح السياسي الذي قامت من أجله ثورة 25 يناير، ولكن مصر تغيرت بعد يناير و اصبحت شفافة و نزيهة فالأعضاء الذين سيتم انتخابهم 508 أعضاء وستتم الانتخابات تحت الإشراف القضائي الكامل و الرقابة الدولية على عكس ما حدث في عام 2010 - وتشهد مصر الان حرية و ديمقراطية لم تعرفها منذ ما يقرب من ستين عامًا وتم إطلاق حرية تكوين الأحزاب في مصر و تعديل قانون الأحزاب بما يسمح بإنشاء الأحزاب فورًا وبالأخطار وأنشأت جماعة الاخوان المسلمين حزبا سياسيًا باسم الحرية والعدالة بالاضافة إلى عشرات الاحزاب والحركات السياسية مثل ائتلاف شباب ثورة شباب 25 يناير الذي يضم الحركات الشبابية التي أطلقت الدعوة للانتفاضة وحركة شباب 6 أبريل والجمعية الوطنية للتغيير والحركة من أجل التغيير وغيرها من مظاهر التغير السياسي فى مصر سيزيد من المشاركة فى انتخابات مجلس الشعب 2011. البلطجية يشكلون خطرًا على الانتخابات ويرى الدكتور عمرو حمزاوي وكيل مؤسسي حزب «مصر الحرية» وأستاذ العلوم السياسية بأن المرحلة القادمة فى مصر صعبة وغير مسبوقة ونأمل ألا تكون دموية بسبب وجود العديد من البلطجية والخارجين عن القانون ومثيري الشغب داخل الدوائر الانتخابية في ظل الغياب الأمني غير المبرر حتى الآن، وعن الربط بين تجربتيْ تونس ومصر، قال: إن كل تجربة من تجارب الربيع لها خصائصها ومكوناتها الذاتية والتى تتوافق أو تتعارض مع خصائص ومكونات تجربة أخرى، الا أن كل تجارب الربيع موحدة الأهداف والغايات فى تحقيق الحرية والديمقراطية لشعوبها وهو الهدف الأسمى الذى قامت من اجله كل ثورات الربيع العربي، وأرى اننا نحن المصريين قمنا بثورة كما سبقنا وقام الأشقاء فى تونس بثورتهم ونجحوا فى إسقاط النظام القديم ،كما نجحنا فى إسقاط النظام القديم ،وكما سبقونا في الثورة سبقونا أيضًا فى إجراء انتخابات تأسيسية ونحن مقبلون خلال أيام قليلة على أول تجربة ديمقراطية لتشكيل أول برلمان بعد الثورة ،ونأمل أن تتم المسالة بسلام وشفافية وتلبي طموح الشعب المصري، رغم إدراكنا كنخب ودارسين للعلوم السياسية أن الانتخابات التى تأتى بعد الثورات قد تواجه بعض المشاكل والعقبات وقد لا تكون نزيهة بنسبة 100% وقد تنجح بعض عناصر النظام السابق فى الوصول للسلطة، وهناك العديد من تجارب العالم تشهد بذلك. مصر تعيش مرحلة لم تكتمل وأضاف «إننا نعيش مرحلة سياسية لم تكتمل بعد، وأول خطوة في إعادة بنائها هي السياق التشريعي أو القانون الحاكم للحياة السياسية من دون الوقوع في أخطاء، لأنها ستكلفنا ثمنًا باهظًا هو البرلمان المفتت واللجنة التأسيسية المفتتة وخطر عودة فلول الحزب الوطني المنحل». ويرى الخبير الاستراتيجي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الدكتور عمرو الشوبكي أن تطور أحداث الثورة المصرية يبدو منطقيًّا رغم الأشياء غير المتوقعة والتجاذبات بين أطراف العملية السياسية إلا أن الأمور تسير نحو الانتخابات البرلمانية، ورغم المخاوف من الانفلات الأمني ومن عودة فلول النظام السابق بسبب تعثر صدور قانون العزل السياسي لكن الثورة أسقطت نظامًا مستبدًا أدار العملية السياسية على مدار 30 عامًا بتهميش كل قوى المجتمع المصري، وأرى أن التجربة السياسية الناجحة فى أي بلد ترتكز على إسقاط النظام السابق وليس بتفتيت أجهزة الدولة وأن نعمل على التحصين بالقوانين عبر وآليات صحيحة للعبور إلى مستقبل أفضل وأتوقع غدًا مشرق للمجتمع المصري عقب نجاح ثورة 25 يناير. تحديد النظام السياسي تحدٍّ يواجه الثورة المصرية يرى الشوبكي أن التحدي الذى يواجه الثورة المصرية يتمثل في تحديد شكل النظام السياسي من «الدستور وانتخابات البرلمان ورئاسة الجمهورية»، ولا بدّ لمصر أن تبدأ فى تكوين برلمان قوى يعبر فئات المجتمع وطوائفه وذلك من خلال إعداد قائمة تعطى لكافة الأحزاب والمستقلين الترشح فى إطار ديمقراطي متجدد. التجربة التونسية و وضوح فى الرؤية والهدف من ناحيته قال الخبير الاستراتيجي وعضو اللجنة العليا بالحزب المصرى الديمقراطي الدكتور عماد جاد أن هناك اختلافات جوهرية بين التجربة التونسية والتجربة المصرية فى التحول الديمقراطي، وأن أهم ما ميز التجربة التونسية وضوح الرؤية والهدف وظهر ذلك جليًّا منذ إسقاط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وتتمثل الرؤية الواضحة فى التوافق على الدستور أولا قبل الانتخابات وهذا لم يتحقق فى التجربة المصرية حيث رأت الأغلبية -رغم اتفاقنا أو اختلافنا معها- على إجراء الانتخابات أولا ثم إقرار ذلك عبر الاستفتاء الشعبي، وأضاف جاد أنه لو تحقق فى مصر ما تحقق فى تونس من اقرار الدستور أولًا لما كنا واجهنا الكثير من المشاكل التى نمر بها الآن، ونحن فى مرحلة يمكن أن نضعها فى خانة «اختلاط الحابل بالنابل» وهى شديدة التعقيد. ولكن أعتقد أن الوقت قد مر وإعادة الجدل مرة أخرى حول الدستور أولًا أم الانتخابات أولًا يبدو عقيمًا وغير مفيد وعلينا أن نستعد للاستحقاق الانتخابي المقبل رغم تحفظ الكثير من القوى السياسية على مدخلاته.