لديَّ إيمان عميق بأن الساحة مليئة بالكفاءات الثقافية الرَّزينة، العميقة في فهمها وإدراكها لخبايا المشهد الثقافي، بمختلف تموجاته وتشكيلاته المتنوعة، وأؤمن يقينًا بأن أولئك يملكون في دواخلهم مشروعًا قيَميًا إبداعيًا رائعًا يأملون في تحقيقه، وأثقُ بأن مشروعهم سيكون محل ارتياح وقابلية الكثرة من النخب الثقافية الصامتة، أولئك الذين وضعوا أيديهم على أبصارهم خشية أن يتسيَّد المشهد الثقافي من لا ناقة له فيه ولا جمل، وباتوا ينتظرون بلهفة وخوف نتائج ما ستفرزه الانتخابات القادمة لمختلف مجالس الأندية وبخاصة فيما يتعلق بالنادي الأدبي الثقافي بجدة؛ لهفة إلى رؤية المجلس الجديد بحلته القشيبة، وذائقته المتجددة، التي سيشكل ملامحها في هذه المرة أعضاء الجمعية العمومية للنادي، بانتخابهم للأصلح والأكفأ، الذي يملك منهجا مدروسا ورؤية واضحة إزاء طبيعة مستقبل مشهدنا الثقافي؛ وتخوفٌ من أن تباع الثقافة في سوق التحالفات القبلية، والعصبيات الشللية. وواقع الحال فإن كل ذلك لن يزيد مشهدنا الثقافي إلا تخبطا وتيها، ولن يكون له أي دور مستقبلي زاهر يُمكِّنه من تسيد هرم الثقافة في الجزيرة العربية، ناهيك عن المشهد الثقافي العربي بوجه عام. وفي تصوري فإن مخاوف من هذا القبيل تستحق مناقشتها وتسليط الضوء عليها، ذلك أنه قد أصبح معروفا بأن لعبة الانتخابات قد أثارت لعاب العديد من المنتمين للجسم الثقافي، ممن يتشدقون بهواية جمع الألقاب، ويلهثون خلف الأضواء، وحتما فإن أولئك لا يملكون أي رؤية مستقبلية لكيفية تطوير المشهد الثقافي، وزيادة الارتقاء به، وتطوير قدرات المنتمين إليه، وكشف إبداعات جيل جديد من الشباب، بل أجزم أنهم لا يملكون أي خطة لاستقطاب كوادر ثقافية متجددة، جهلا بالأمر وبآليات تحقيقه من جهة، وتخوفا على مصير مواقعهم في قابل الأيام من جهة أخرى. على أني وبقدر مشاركتي لتلك النخبة في مخاوفها المشروعة، لكني أتصور بأن الجُرمَ الأكبر كامن في حالة السلبية وارتقاب ما يجود به المشهد الانتخابي، دون بذل الجهد والعمل لإيصال الأصلح وانتخاب الأكفأ، ذلك كان فحوى جوابي لأحد أصدقائي حين أبدى استغرابه لعدم ترشحي لعضوية مجلس إدارة النادي الأدبي الثقافي بجدة في دورته القادمة، مضيفا بأن الأمر يجب ألا ينتهي عند ذلك وحسب، حيث إن دور عضو الجمعية العمومية لا يقتصر على ممارسة حقه في الترشح أو الانتخاب، بل يتركز بعدئذ في تفعيل الجهد الرقابي لأداء مجلس إدارة النادي المنتخب، ومتابعة سير أعماله بناء على ما يعلنه المجلس من خطط وأهداف. تلك عزيزي المثقف بجنسيه الكريمين هي حقيقة الفعل الثقافي وجوهر معانيه، وذلك هو أوج ما نسعى إليه ونتمنى تحقيقه في إطار الفعل الانتخابي كشريحة واعية مدركة، قد تماهت الفوارق البغيضة بينها، وتقابلت النفوس والأذهان على مائدة فكرية مشتركة، شكلت الرابط الحقيقي بينهم. إنه المشهد الذي نأمل حضوره في ذلك المساء الثقافي القريب بالنادي الأدبي الثقافي بجدة، الذي يتسيَّد فيه الوعي، وتضمحل بين جنباته الأنا، وتتلاشى العصبيات المقيتة، فلا أحساب ولا أنساب داخل أروقة الثقافة والفكر. وأرجو أن نتذكر جميعًا أن مشهدنا بوجه عام لا يزال محمومًا بنقاشات ساخنة، قد عفا عليها الدهر في عدد من الدول المجاورة منذ نصف قرن ويزيد، جراء ما يعانيه من قصور معرفي، ورتابة فكرية، وصغر حيز الحركة التأملي عند عدد من الكتاب والمثقفين، وهو ما يؤثر سلبًا على تنامي وتيرة الحراك الثقافي بالشكل المُتسارع المطلوب. وبالتالي فإن أيَّ مشروع ثقافي جاد مُتجدد يحتاج لبلوغ غايته من توفر ووضوح الرؤية الاستراتيجية العامة، بمعنى أن تكون الأهداف الغائية لحركة التفاعل الثقافي واضحة في ذهن المُشرِّع الثقافي، وفق الضوابط الكلية العامة، حتى يتمكن الفكر والإبداع من التألق بالصورة الصحيحة، وبالتالي ازدهار آفاق وملامح المشهد الثقافي في مختلف مجالاته الأنثروبلوجية، والفنون الفلسفية، والأعمال الإبداعية من مسرح ورواية وموسيقى إلى غير ذلك. فهل سيتجه مشروعنا الانتخابي صوب تحقيق ذلك؟!