يتكاثر الجدل في كل مرة، عندما يقع الاختلاف في وجهات النظر الفقهية، ويريد البعض من الآخرين أن يلتزموا باجتهاداتهم، وهي مجرد ترجيحات شخصية لا تلزم سوى مَن ارتضى تقليدهم، ويبقى لولي الأمر اختيار ما يرى فيه المصلحة العامة للبلاد والعباد، وهنا يجب إعادة التذكير بالفرق بين حكم القاضي الملزم، وفتوى المجتهد غير الملزمة، فالقاضي هو القاطع للأمور المحكَّم لها، والقضاء يعني الحكم والإلزام، وهو فصل الخصومات، وقطع المنازعات بإظهار حكم الشارع فيها، وإمضاء الحكم لها على سبيل الإلزام. والمفتي المجتهد هو المخبر عن حكم الشارع في أمر من الأمور، بعد أن يستقرئ الأدلة، ويتبع مقتضياتها، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص، وإن كان مقلّدًا نظر في مذهب إمامه، ونقل للسائل حكم الحادثة منه. ويتفق القضاء والإفتاء على أنهما إظهار لحكم الشارع في واقعة من الوقائع، فهما يشتركان في كونهما إخبارًا عن الحكم. ويختلف القضاء عن الإفتاء بأن المفتي ينظر في الواقعة المعروضة عليه من قبل المستفتي، ويحللها ليستخرج منها الأوصاف المعتبرة، ويطبق عليها الأحكام الشرعية بعد استقراء الأدلة، في حين أن القاضي يعتمد على حجج الخصوم من بيّنة، أو إقرار، أو غيرهما؛ ليكتشف منها ما ينبغي اعتباره من الأوصاف، وتطبيق الحكم الشرعي عليه، ولذلك احتاج القاضي لكي ينجح في إصابة الحق إلى كثير من الصفات التي قد لا يحتاجها المفتي من فراسة عظيمة، ويقظة وافرة، وقريحة باهرة، وخبرة واسعة، لأن المفتي يأتيه المستفتي بقلب أسلم، ونية أصفى من الخصوم، حينما يأتون القاضي، وكثيرًا ما يتعمدون إخفاء الواقع وتمويه الحجج، فطريق القاضي في اكتشاف ما ينبغي اعتباره من الأوصاف أصعب من طريق المفتي، ولذلك احتاج إلى تلك الصفات دون المفتي. كما يتميّز القضاء عن الإفتاء بالإلزام بالحكم، فالقاضي إذا جلس للقضاء، وأصدر حكمه كان به ملزمًا، ولا مناص من تنفيذه على من صدر عليه، وذلك لأنه مقلد من السلطان ونائب عنه، فهو يستمد الولاية منه، وأمّا المفتي فإنه لا يلزم بفتواه أحدًا، وإنما يخبر بها من استفتاه فحسب، فإن شاء قبِل قوله، وإن شاء تركه. ولذا فالقضاء إنشاء لأمر لم يكن موجودًا قبل صدوره، وذلك أن القاضي ينشئ الإلزام على الخصم، بخلاف المفتي فهو غير منشئ، وإنما كاشف للحكم حسب اجتهاده ومخبر به فحسب. وذكر ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين أن القاضي حكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله، بينما فتوى المفتي تكون شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره، فإن المفتي يفتي حكمًا عامًّا كليًّا أن مَن فعل كذا ترتب عليه كذا، ومَن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاءً معينًا على شخص معيّن، فقضاؤه خاص ملزم، وفتوى العالم عامة غير ملزمة، وكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير. وعلى هذا فما يصدره القاضي من أحكام بصفته القضائية الملزمة غير ما يصدره من فتاوى بصفته العلمية غير الملزمة، سواء كانت الفتوى عامة، أو خاصة، أو كانت رأيًا فقهيًا اجتهد فيه. وكما أنه لا يجوز فعل الشيء من أجل الناس، فكذلك لا يجوز تركه من أجلهم فالرياء له وجهان، وكذلك القول والاجتهاد في المسائل الفقهية التي تبرئ الذمة، ولو كثر الخصوم، وطاشت العدالة، وتاهت الموضوعية، وشاع الخصام، واستبيحت الأعراض المتيقنة لحساب أعراض متوهمة، وكل هذا وذاك محسوب للدين وحرمته وغيرته بزعمهم. وإذا كان الخلاف في المسألة لذاتها فلا إلزام ولا إنكار على المجتهد الآخر والعامل برأيه، وإن كان الخلاف في المسألة لغيرها كأن يكون من باب سد الذرائع، فيكون العلاج في وضع الضوابط الشرعية الجامعة للمصالح والمانعة للمفاسد، ومن لم يلتزمها فيكون الإنكار لعدم الالتزام، وليس لعدم جواز الأصل، وخصوصًا إذا كانت المسألة ممّا تم إشباعها بحثًا في عموم البلاد العربية والإسلامية بحيث لا ينبغي أن نبدأ من حيث بدأوا، وإنما من حيث انتهوا، ونسأله تعالى التوفيق، والله من وراء القصد.