حين تخلو العبادات من استحضار معانيها وثمراتها، حين تخلو من الروح الحقيقية التي شرعت من أجلها، تتحول إلى مجرد طقوس خالية من المضمون، وتضحى عبارة عن قوالب محفوظة ورواسم (أي كليشيهات) مبتذلة. في العبادات دروس يتفكر فيها المؤمنون ذوو الحس المرهف، ويتدبرها العابدون ذوو التأمل العميق، فيتميزون عن سائر الناس بتذوق للعبادة مختلف، وبثمرات تخصهم وحدهم تختلف آثارها فيهم بقدر عمق تفكيرهم، فليس كل المصلين سواء، ولا كل الصائمين سواء ولا كل الحجاج سواء. يشتركون مع سائر الخلق في أداء العبادة الظاهرة، ثم يتميزون عنهم بآثارها الباطنة، و«إن في الذوق معنى ليس في الكتب» كما يقال. خطأ وأي خطأ أن تصبح نظرتنا للعبادة نظرة مبنية على (الكم) لا على (الكيف)، وعلى الظاهر لا على الباطن، دون اهتمام بتجويد العبادة وتحسينها وإتقانها على أتم وجه، ودون اهتمام باستشعار العبودية في أدائها وما يتصل بهذا من معاني يدركها القلب ويعيشها الوجدان. وللصيام دروسه التي تميزه عن غيره، فهو عبادة السر إذ هو مبني على الترك لا على الأداء في حين أن العبادات غيره مبنية على الأداء لا على الترك فهي عبادات العلن، فالصائم يمتنع عن الطعام والشراب قادرًا على الاستخفاء بشربة ماء أو لقمة خبز في خفية عن العالمين. في رمضان تتجلى العبودية الحقة، العبودية الاختيارية لا الاضطرارية، فإن اختلاف النهار والليل ينسي، ويحتاج العبد أن يتذكر أن المال مال الله! وأقرب ما يتموله الإنسان طعامه وشرابه إذ لا غنى له عنه، في رمضان يذكّر الله عباده بالملك الحقيقي، هذا الطعام والشراب لي لا لكم أنا فيه صاحب الفضل والإنعام! حين تقرون بالعبودية لي تتذكرون في هذا الشهر أنكم وما تملكون لي، حتى الطعام والشراب! أليس هذا معنى مدهشًا؟ الطعام والشراب أنا اشتريته! إنه في الثلاجة على متناول اليد! ومع هذا فإني أمتنع عن الطعام والشراب، وهو أهون ما يلابسني من مالي طول الوقت، لأن صاحب الطعام الحق ليس أنا ولكنه الله، وصاحب الطعام والشراب الذي أنا عبد له نهاني عن الأكل والشرب في مدة معلومة، لقد علمت هذه الحقيقة مرارًا ولكن رمضان يذكرني بها إن نسيت أو سهوت. وهكذا تتحوّل الأرض كلها إلى مائدة ضخمة، ملأى بصنوف الأطايب، مترعة بأصناف النعيم، وهكذا يتحول العباد كلهم إلى ضيوف على مائدة الرحمن (الأرض)، ثم لا تمتد يد إلى شيء من تلك الأطايب حتى يأذن صاحب المائدة وهو الله، فما إن يرتفع أذان المغرب حتى نعلم أن صاحب المائدة قد أذن لنا بالأكل: تفضلوا! وهاهنا يفرح العباد على الفطر حتى لو كان كسرة خبز! وهاهنا يتجلى اسم الله المنعم! فالصائم يصح فطره على مذقة لبن، وعلى كسرة خبز، وعلى شربة ماء، كما يصح فطره على مزعة من اللحم المشوي، أو قطعة من الحلوى الفاخرة، أو ثمرة من الفاكهة الطازجة. حينئذ لا فرق بين كسرة الخبز الناشف وقطعة اللحم! فكلاهما من نعم الله تعالى، وهكذا يضج كل المفطرين أغنياء وفقراء حين أذن لهم صاحب الطعام بالأكل، يضجون معلنين بمعاني العبودية للمنعم تعالى، فيقولون بصوت واحد: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، إن امتناعنا عن الطعام والشراب إنما كان لك طوعًا منا واختيارًا، وإن فطرنا إنما هو على نعمتك أيها المنعم تعاليت وتباركت. أما الظمأ فذهب وانقضى، وأما العروق فابتلت ورويت، ذهب العناء والتعب، وثبت الأجر. حتى إذا انتهت الأيام المعدودات وجاء العيد حرّم في هذا اليوم الصوم ووجب الفطر؛ لأن صاحب المائدة أمرك أن تأكل من مائدته، إنه الله، تعالى، إنه المنعم! وهاهنا يستشعر العبد المعاني السابقة كلها في العيد كما استشعرها في رمضان، أمتنع عن الطعام لأن صاحب الطعام نهاني، وآكل وجوبًا في العيد لأن صاحب الطعام أمرني، وأنا عبد له في الحالتين. تقبل الله صيامك يا عبدالمنعم [email protected]