اتفق العقلاء أن قيادة المرأة للسيارة ليست محرمة لذاتها، فالأصل فيها الإباحة، وأنها لا تكون محرمة إلا إذا غلبت مفاسدها مفاسد عدمها. ولا يدّعي منصفٌ ممن يحرمون قيادة المرأة للسيارة أن غلبة مفاسد الإذن بذلك بضوابط وشروط غلبةٌ مقطوعٌ بها، ولا يدعي منصفٌ ممن يبيحها بضوابط وشروط أن غلبة مفاسد مَنْعِها غلبةٌ مقطوع بها. فالمسألة إذن ظنية، والمسائل الظنية لا يجوز فيها الإنكار. فهل يمكن أن نصل (ابتداءً) إلى اتفاق على هذه النقطة الواضحة، والتي يجب الاتفاق عليها؛ لأنها هي الجزء المقطوع به في هذا الاختلاف والاصطفاف والتفرق المذموم: وهي عدم الإنكار من المحرمين على المبيحين، وعدم وصفهم بالتغريبيين ونحوه من أوصاف التشنيع، وعدم إنكار المبيحين على المحرِّمين، وعدم وصفهم بأنهم متزمتون ورجعيون ونحوها من التشنيعات. وبعضهم لا يفهم التقرير السابق، فيقوده ذلك إلى الخروج عن حدود الإنصاف، فيدعي أن غلبة المفاسد من السماح للمرأة بقيادة السيارة أمرٌ يقينيٌّ مقطوعٌ به، وليس ظنيًا! فأجيبه بالتالي: أولًا: الحديث ينحصر عن سماحٍ مقيّدٍ مشروطٍ، وليس سماحًا مطلقًا. والحديث عن مثل هذا السماح قبل العلم بقيوده سيكون كلامًا بغير علم. فلا بد من معرفة الشروط (أولًا)، ولا بد من التأكّد من عدم كفايتها تأكدًا يقينيا (ثانيا)، حتى يمكن بعد ذلك أن يُدعى بأن تلك الشروط ستؤدي إلى مفاسد متيقّنة. أما قبل ذلك، فسيكون كلامًا أبعد ما يكون عن العلم. ولا بد من التذكير أني أشترط التيقُّنَ في هذا التقرير؛ لأني أتحدث في هذا السياق عن الإنكار على المخالف، ولا أتحدث عن مجرد الترجيح الذي يصح بالظن الغالب. ثانيًا: يغفل بعضهم عن شرط (غلبة) المفاسد، فيدعي أن تحقق المفاسد أمر متيقن؛ لأن تحقق بعض المفاسد من قيادة النساء أمر لا شك فيه، ويقصد بذلك أنه لا بد من حصول مفاسد على بعض النساء ومنهن. وهذه الغفلة لا تنتج إلا من ضعف التدقيق وقلة الفقه؛ لأن الدنيا لا تخلو من المفاسد؛ ولأن تحقق المفاسد، بمعنى تيقن وقوع بعضها من النساء عمومًا، لا ينحصر في قيادة المرأة للسيارة، بل خروج النساء من بيوتهن مطلقا (ماشية أو راكبة) تتحقق به مفاسد متيقنة، وقعودهن في بيوتهن تتحقق به مفاسد أيضًا: بمعنى أنه لا بد من وقوع مفاسد من بعض النساء أو عليهن! والرجال شركاء لهن في ذلك كله، فلا بد من تحقق مفاسد من قيادة الرجال للسيارات، ومن مشيهم في الأسواق، ومن قعودهم في بيوتهم بين عائلاتهم!! فلم تكن تلك المفاسد اليقينية بكافيةٍ للقول بالتحريم عند كل العقلاء؛ لأن تحقق المفاسد يقينًا في مرات قليلة، ليس هو التحقق الغالب الذي يبيح تحريم الحلال؛ وهذا التحقُّقُ الغالبُ المتيقَّنُ وحده هو الذي يجيز الإنكار على من أباح قيادة المرأة بشروط تُقللُ المفاسد ولا تجعلها غالبةً في ظنه. كما أن حصول صناعة الخمر من العنب، لا تجيز أن نمنع زراعته منعًا مطلقًا. فلو قال قائل: إن صناعة الخمر من العنب أمرٌ متيقن في بلادنا، فهناك من يصنع الخمر منه يقينًا، فعلينا لذلك منع زراعته! قلنا له: لكنه ليس هو الغالب من نتائج زراعته عندنا، فلا يجوز منع زراعته بمجرد حصول ذلك مرات قليلة، وليس من قطع دابر الفساد المشروع أن نمنع ونحرم زراعة العنب منعًا مطلقا، بحجة تيقننا أن هناك من يستخدمه في صنع الخمر. ثالثًا: أننا عندما نتكلم عن تيقّن غلبة مفاسد قيادة المرأة للسيارة نتكلم عنه بموازنته بمفاسد الواقع الحالي، الذي ترتبت عليه مفاسد عديدة: دينية ودنيوية، ومن ذلك أن المرأة تركب مع السائق الأجنبي وسيارات الأجرة، وما ينتج عن ذلك من مفاسد متيقنة أيضًا؛ وإن لم تصل إلى درجة الغلبة أيضا. فإذا كان إعطاء المرأة حقها في قيادة السيارة بالضوابط والشروط سوف يخفف من المفاسد الواقعة الآن بسبب المنع، ولن يضيف مفاسد أشد منها وأعظم: كان ذلك سببا لترجيح الإباحة على المنع؛ لأن الشريعة جاءت بإيجاب دفع أعظم المفسدتين بأخفهما. وبعد تقرير حدود الإنصاف في مناقشة هذا الموضوع: أبدأ بذكر ترجيحي في موضوع قيادة المرأة للسيارة، والذي يتلخص في أنه حقٌّ من حقوق المرأة، ولذلك قلنا: إن الأصل فيه الإباحة. ولكن يجب أن تُوضع الضوابط التي تُصحِّحُ تطبيقَه، ويجب تهيئة مؤسسات الدولة لكي تكون قادرةً على أن تعالج حاجاته وتردع كل من يستغله في الإفساد، ليُسمحَ بعد ذلك (لا قبله) للمرأة بممارسة هذا الحق المشروع. ولا يصح عندي أن يستمر السكوت (من ولاة الأمر ولا من العلماء) عن تحقيق هذا الهدف، كما لا يجوز أن يستمر هذا السكوت إلى أن تصبح قيادة المرأة للسيارة واقعًا، دون ضوابط ولا قوانين، ثم بعد ذلك نسعى لضبطه بالضوابط وحمايته من الإفساد بالقوانين. ولقد طال على الناس ذلك السكوت، حتى لقد أصبحتُ أشك أن بعض الغيورين (غَيرةً غيرَ شرعيةٍ؛ لأنها غيرُ منضبطة بالشرع) يتمنى عدم وضع ضوابط لقيادة المرأة للسيارة، لكي يبقى منع المرأة من هذا الحق منعًا ساريَ المفعول أبدًا: إما لشكهم في ولي الأمر وفي جديته في حماية الفضيلة، ونسوا أنهم هم أنفسهم الذين يُوجبون طاعته في منع قيادتها الآن! وإما لتبقى مفاسد القيادة أعظم من مفاسد منعها أبدًا، لتنال فتوى التحريم قدسيةَ التأبيد. لكن هذا التأبيد مستحيل، وهو ظلم للمرأة في حق من حقوقها. ومن غرائب منهج أصحاب منهج التشنيع في الممانعة (كما سبق) أن بعضهم يبني موقفه على شكّه في جِدّيةِ الدولة في تطبيق الأنظمة والضوابط المتعلقة بحماية الفضيلة، فنقول له: إذا كانت الدولة عندك متهمةً في تطبيق الضوابط، فيجب أن يكون اتهامُك لها أكبر في استمرارها على تطبيق فتوى تحريم القيادة. فما الذي يجعلك واثقًا من أن الدولة ستصمد أمام هذا المنع المطلق لقيادة المرأة، وأنها لن تصمد أمام تطبيق ضوابط السماح لها بذلك؟ أليس هذا تناقضًا في الموقف من الدولة وقراراتها؟ وإذا كانت الدولة غير متهمة في الصمود أمام قرار المنع، وكانت قادرة على تطبيقه (مع شدة هذا القرار) ثلاثين سنة مضت، فلماذا تكون متهمة في قرار السماح بالضوابط، ولماذا تكون عاجزة عنه مع كونه أيسر في مواجهة الضغوط؟ فإن قيل: قرار السماح بضوابط أصعب تطبيقًا وتنفيذًا من قرار المنع المطلق، قلنا لكم: لكنه مع صعوبته ليس مستحيلًا، فيجب إعانة الدولة في تطبيقه، بل يجب إلزامها بذلك، ما دام الشرع لا يتحقق إلا بذلك التطبيق، كما كانت الفتوى السابقة قد ألزمت الدولةَ بالمنع المطلق، والتزمت بها الدولةُ مشكورة التزامًا منها بما ظنته حكما شرعيا أو سياسةً شرعية. كما أن الدولة (وفقها الله) قد قامت بما هو أشد من السماح المشروط بقيادة المرأة وأصعب، خلال سنواتها المديدة. بل لماذا لا يكون السماح بقيادة المرأة بضوابط هو الخطة التي ستكون أكثر حظا في احتمالية التطبيق، وفي إمكانية صمود الدولة والمجتمع في التزامه والعمل به، لتكون هذه الخطة بذلك أولى بالحرص عليها من ذلك المنع المطلق؟ خاصة مع الضغوط العالمية في هذا الموضوع، ومع الضغوط الداخلية من أصحاب الحق من النساء ومن يعينهم في هذه المطالبات، ومع ضغطٍ شرعيٍّ يُوجب علينا السعي إلى تحقيق فسحة الشرع بتحليل الحلال، ولنُرجع الأمر إلى حكمه الأصلي الذي طيّبه الله تعالى لعباده بإباحته لهم. وأما ما يتعللون به من كون دعاة التغريب هم من يطالب بقيادة المرأة للسيارة، فمع ما في هذا الإطلاق من خطأ واعتداء، إذ ليس كل من طالب بقيادة المرأة للسيارة تغريبيًا، خاصة ممن يضع لذلك الشروط والضوابط، فهذا الإطلاق أيضًا ليس مسوغًا كافيًا ليجيز لنا أن نمنع المرأة حقها في قيادة السيارة منعًا مؤبدًا؛ لأن المفسدين لن يتوقفوا عن مطالباتهم، فهل سنستمر في المنع أبد الدهر، فنحرم بذلك ما أباح الله تعالى بحجة أنه سيكون جسرًا للمفسدين؟ في حين أننا بوضع الضوابط التي تحقق المصالح وتخفف المفاسد سوف نستطيع إفشالَ خطط التغريبيين وإبطال دعواتهم، ولن يحصل ذلك بمجرد تحريم المباح، الذي هو مفسدة بحد ذاتها، لا تجوز إلا للضرورة، فتحريم الحلال جريمةٌ كبرى كتحليل الحرام سواء. وأما إذا كنا عاجزين عن مواجهة دعاة التغريب إلا بتحريم مُؤبّد للحلال، فهذا يعني أننا سنحرم من الحلال أضعاف ما حرم الله تعالى من الحرام! لأن دعواتهم سوف تستمر، ما بقي في الأرض خيرٌ وشرٌّ وإيمانٌ وكفر. وهذا المنهج منهجٌ خطير يُقوِّضُ الدينَ من أساسه ويحرِّفُ الشريعة ويبدِّلُ الأحكام الإلهية إذا ما اطردنا فيه. وأما إذا لم نطرد فيه، فيكون هذا تناقضًا منا، يفضح خلل اتباع هذا المنهج، ولو في حكم واحد. ومن مشكلات بعض إخواننا المشايخ الذين لا يقبلون وضع ضوابط لقيادة المرأة للسيارة أنهم دائما ما يذكرون أن سبب ذلك المنع هو أن التغريبيين سيتخذونه جسرًا للمفاسد، وحفظنا عنهم ذلك منذ عرفنا القراءة والكتابة، ومع ذلك فإننا كلما خالفناهم في اجتهادهم هذا، توهموا أو أوهموا أننا ما خالفناهم إلا لغفلتنا عن ذلك المخطط التغريبي! وكل مرة إذا تكلموا عن المخطط التغريبي تكلموا عنه على أنه التأصيل العلمي العميق الذي يغفل عنه السطحيون، مع أن السطحي حقًا هو من ظن أن هذا الموضوع من الممكن أن يغفل عنه عاقل، فضلًا عن عالم، لا لظهوره وخطورته الحقيقية فقط ولكن لكثرة الكلام فيه، حتى أصبح الكلام فيه كقصة ألف ليلة وليلة، لا ينتهي حتى يبدأ لكنه مجرد كلام! فنقول لهم: يا جماعة! لقد حفظنا حجتكم هذه عن ظهر قلب، وكان بعضنا يعرفها قبل أن يعرفها بعضكم، وربما قبل أن يولد! فمخالفتنا لم تكن ناشئة عن عدم علم بالمخطط التغريبي الذي تُحرِّمون لأجله المباحات، ولكنه ناشئ عن أمور عديدة منها: فَشَلُ خطة الممانعة في مرات كثيرة سابقة، حتى أصبحت مرات الفشل تلك مجالًا للتندر والسخرية عند التغريبي والتشريقي. كما أن مخالفتنا لكم ناشئةٌ أيضا عن أن هناك أكثر من وسيلة تستحق التجربة لمواجهة المخطط التغريبي غير خطتكم التي تكرر فشلها. ويُضاف إلى ذلك: أن التحريم المطلق لما كان مباحا في الأصل لا يجوز مع القدرة على تخفيف مفاسده الداعية عندكم إلى تحريمه، مما يُوجِبُ عليكم احترامَ الاجتهاد الساعي لإعادة هذا الحكم إلى أصله الشرعي من الإباحة. وأما التفاخر بنجاح فتوى التحريم والممانعة المطلقة لمدة ثلاثين سنة ماضية، مُنعت فيها كثيرٌ من المفاسد والشرور بتلك الفتوى، فليس هذا مفخرة في كل حال! فإذا كان من الممكن وضع الضوابط التي تعيد الحلال إلى حِلِّيَّتِه؛ لأن تحريم الحلال (كما نُكرّره دائما ولا نملُّ من تكراره) لا يجوز، فكيف يُفتخر بتحريم المباح. وهذا يذكرني بقرية كانت تشيع فيها المنكرات والفواحش، فاستولى عليها الخوارج، فقتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم على مذهبهم في كفر مرتكب الكبيرة، فخفت المفاسد فعلًا في تلك القرية لكن بمفسدة أكبر. فليس كل منع للمفاسد مشروعًا؛ إلا إذا كان موافقًا للشرع، وتحريم المباح مع القدرة على ضبطه لكي لا يؤدي إلى المفسدة الداعية إلى تحريمه ليس طريقة مشروعة في منع المفاسد. كما أن ذلك التفاخر لن يكون في محله أيضًا إذا أدَّى إلى انفجار المفاسد جملة واحدة بعد أمدٍ من الزمن، حتى لو كان ذلك المنعُ قد دام ستين سنة لا ثلاثين؛ فالأمور بمآلاتها. ولما أدرك بعضهم أن تعليق كل تحريم لمباح بالمشروع التغريبي قد أصبح موضوعًا مبتذلًا ممجوجًا، ووجدوا أن ثورة حنين والخطر الشيعي شيء له وهجه وبريقه هذه الأيام، صاروا يربطون حديثهم عن قيادة المرأة للسيارة بثورة حنين وبالخطر الشيعي! طيب.. فقبل ثورة حنين وقبل الخطر الشيعي الذي اشتدّ في السنوات الأخيرة لماذا لم تصححوا الوضع منذ ثلاثين سنة مضت؟ وبعد ثورة حنين، وبعد الانتهاء من الخطر الشيعي إن شاء الله هل ستسمحون بقيادة المرأة للسيارة بالضوابط التي تضعونها أنتم؟! ثم إلى متى تظنون أن كل ما تتوهمونه لا بد أن يكون هو حق؟! بل كيف تتوهمون أن مجرد مطالبة النساء بقيادة السيارة أمر خطير وفتنة عظيمة تهدد وحدة الوطن وتعرض أمنه للخطر؛ لأنها ستحقق ما كانت تسعى إليه ثورة حنين من قلب نظام الحكم وتفتيت وحدة أراضي الوطن؟ هل صدّقتم أنفسكم أن هذا كله سيحصل على يد نساء ومن خلال مطالبتهن بقيادة المرأة للسيارة؟ طيب يا جماعة.. أفسدوا هذه المظاهرة النسوية الخطيرة، بمبادرة تَعِدُون فيها بوضع النظام الذي سيسمح بقيادة المرأة للسيارة خلال فترة معينة. وأما ربط ما حصل بالشيعة لمجرد وجود امرأة شيعية من دعاة التحرير اللواتي يتحدثن فيما لا يعلمن من أمور الشرع مع المرأة التي قادت السيارة فلا أدري ما علاقة التشيع بالتحرر والاستغراب؟! ولا بقيادة المرأة للسيارة؟! طبعا لن يعجز أحد من أن ينسج من خيالاته خيوطا لمؤامرة شيعية من خلال قيادة المرأة للسيارة، لكنها ستكون أوهى من خيوط العنكبوت. من مثل الحملة العدائية تجاه المملكة التي تشنها بعض القنوات الطائفية ضد المملكة، والتي جعلت من موضوع قيادة المرأة للسيارة إحدى وسائل هجومها واعتدائها. ومن مثل أن موعد مظاهرة القيادة توافق موعدًا شيعيًّا، يقال إنه مولد زينب. وهنا أعود مخاطبًا العقول: إذا قاد النساء السيارات وسُمح لهن بذلك كما هو مسموح لهن بها في عامة العالم الإسلامي، ما هو مكسب الشيعة من ذلك؟! هل قيادة المرأة ستنشر التشيع في السعودية؟! إذا كان كذلك، فلماذا لم ينتشر التشيع بقيادة المرأة للسيارة في بقية العالم الإسلامي منذ عشرات السنين كانت تقود فيها المرأة؟ وأما قناة العالم فهي كغيرها من القنوات المعادية لنا تريد تشويه صورة المملكة بتسليط الضوء على موضوع لا يقبله اليوم أكثر العالم، وهو منع المرأة من قيادة السيارة. وأما توافق الموعد مع مولد زينب فهو دليل على أننا سنبحث في برنامج (في مثل هذا اليوم) عن قصة نجعلها هي سببا للحادثة!! أعود وأقول: كيف سيستفيد الشيعة من قيادة المرأة للسيارة؟ طبعا لن تنتهي خيوط العنكبوت عند هذا الحد، ما دامت العناكب حية تنسج خيوطها في الزوايا المظلمة. ولذلك فإني أعيد سؤالًا لمن يصر على ربط هذا الموضوع بالتشيع، وأخذ يجمع أمورًا يظنها أدلةً على ذلك، يقول هذا السؤال: وإن صح أن الشيعة هم من دعا لحملة قيادة المرأة للسيارات: ما علاقة قيادة المرأة بالتشيع!! هل سينتصر مذهب الشيعة إذا قادت المرأة؟! أتمنى أن أجد الجواب الذي يبين علاقة هذا المطلب بالتشيع!! فإن قالوا: إن علاقته تكمُنُ في زعزعة الأمن، أقول: عُدنا مرةً أخرى إلى بُنيّات الطريق، وإلى الكلام الذي لا يمكن أن يكون مستحقًا للتصديق؛ لأن معناه أن بعض الشيعة لما عجز بعض رجالهم عن زعزعة الأمن في ثورة حنين بفكر ثوري انقلابي واضح، لجأوا إلى إعادة الكرة في محاولة زعزعة الأمن من خلال خطة خطيرة جدًا، أخطر وأمكر من ثورة حنين بكثير! وهي أن يقود النساء سيارات مطالباتٍ بالسماح لهن بقيادتها! يعني تمخض جبل الفكر الثوري الشيعي فولد بيضة، وهذه البيضة الفاسدة قنبلةٌ ذرية؛ لأنها هي التي سوف تزعزع الأمن!! كيف؟!! لا يصح أن تسأل؛ لأن بعض الدعاة وطلبة العلم قد قالوا ذلك!! إذن الموضوع (إن صح أن الشيعة هم من دعا له) لا يخرج عن كونه امتدادًا لمطالبات قديمة لمن يطالب بذلك من السنة قبل الشيعة، ما مطالبات النساء بذلك في الرياض عام 1411ه عنا ببعيد. والعاقل يدرك أن المطالبين بقيادة المرأة قسمان: الأول: الذين يطالبون به بحق، وليس عندهم نية إفسادية ولا تغريبية. والثاني: الذين يطالبون به بقصد الإفساد حقًا. والموقف الصحيح من هؤلاء جميعا هو أن نضع الحق في نصابه، فلا نسمح بمنع الحق عن أهله، ولا باستغلال المفسدين له. وأتمنى أخيرًا من جميع أفراد جبهة الممانعة أن يمانعوا بسلاح شريف (كسلاح سد الذرائع) الظني الذي لديهم في هذه المسألة، والذي مهما خُولفوا فيه، فإنه لن يتضمّنَ منهم فجورا في الخصومة مع من يخالفهم. وأن يتركوا الممانعة بسلاح التهم الكاذبة المعمَّمة (كتهمة قصد الإفساد على التعميم)، وبالمخاريق الفكرية (كتهمة صلة هذه المطالبة بثورة حنين وبالخطر الشيعي)، والتي يفضحها العقل والواقع. أعود مذكّرا بأنني لا أنكر على من رأى المنع المطلق منهجا لمدافعة الفساد الذي يتوقعونه من السماح للمرأة بقيادة السيارة، إذا ما اعترفوا أن اجتهادهم هذا اجتهاد ظني، لا يُلزمون به أحدًا ولا ينكرون على من خالفهم ممن يرى السماح للمرأة بقيادة السيارة بضوابط. فذاك الرأي وإن كان عندي خطأ، لكنه خطأ يحتمل الصواب. لكن إذا تجاوز أصحاب ذلك الرأي إلى الإنكار على كل من خالفهم من أهل العلم، فإنكارهم هذا فيما يسوغ فيه الاختلاف (أي في الاجتهاد المعتبر) هو بحد ذاته منكرٌ لا يجوز، ويجب إنكاره على من وقع فيه؛ لأنه محرمٌ شرعًا؛ واعتداء وخرقٌ لإجماع المسلمين الذين أجمعوا على عدم جواز الإنكار في مسائل الاجتهاد المعتبر. فكل عبارةِ إنكارٍ صدرت مني سابقًا في هذا المقال فهي تخص كل من أنكر وشنّعَ على كل عالم أجاز قيادة المرأة بضوابط، وهم كُثُرٌ في العالم الإسلامي، ومن السلفيين وغيرهم. أما من لم ينكر على مخالفيه، ممن حرم تحريما مطلقا، فعرض اجتهاده وترجيحه دون إنكار وتشنيع، فأبرأ إلى الله تعالى من الإنكار عليه. فهل يمكن أن نصل (انتهاءً) إلى اتفاق على هذه النقطة الواضحة التي يجب الاتفاق عليها؛ لأنها هي الجزء المقطوع به في هذا الاختلاف والاصطفاف والتفرق المذموم: وهي عدم الإنكار من المحرمين على المبيحين، وعدم إنكار المبيحين على المحرِّمين؟ هذا ما رجوته من خلال هذه المشاركة. • عضو مجلس الشورى