لايمكن أن أخفي إعجابي بنظام التعليم في اليابان .هذا النظام الذي يعكف عليه خبراء متخصّصون يعملون باستمرار على استحداث المزيد من التغيير والتطوير لينتقلوا به من مرحلة إلى مرحلة وليواكبوا به الطموحات والتطلّعات التي جعلت اليابان في غضون نصف قرن تتحوّل من دولة منهزمة إلى دولة هي الأولى في صناعة الأجهزة الاليكترونية والسيارات والسفن في العالم.. هذا التحّول والتطوّر لم يأت صدفة ولم يكن ليتأتى لها إلاّ لأنها استثمرت في التعليم وفي تنمية القوى البشرية..هذا الاستثمار لم ينجح إلاّ لأنه قام على قواعد مرنة قابلة للتطوير والتعديل. فهم لم يخضعوا للوائح جامدة عفى عليها الزمن بل أخضعوا هذا النظام واللوائح للتطوير.. وجعلوا إدارات المدارس شركاء في صلاحيات وزارة التعليم.. وقبل أن يمنحوها حرية الحركة وصلاحيات اتخاذ القرار أعدّوا المديرين ومساعديهم إعداداً عظيما جعلهم أهلاً لتحّمل هذه المسؤولية. ولم يكتفوا بذلك .. بل فعلوا ما هو أهمّ وهو وضع نظام قوي للمتابعة والتقويم والمحاسبة.. كما ارتكز نظام التعليم هناك على الحوار والمناقشة .ومنحوا التلميذ فرصة أن يكون له رأي في المنهج الدراسي .. وأن يعبّر عن رأيه بحرية ويختار النشاطات التي يحب أن يمارسها خارج المنهج الدراسي. واللافت للنظر أنه وجد أن معدلّ رضا التلاميذ اليابانيين عن مدارسهم أعلى من معدل رضا التلاميذ في المدارس الأمريكية التي سجلت جرائم اعتداء التلاميذ على أساتذتهم في مدينة واحدة وهي نيويورك خمسة أضعاف جرائم اعتداء التلاميذ في مدارس اليابان كلها. لقد وضعت اليابان خططا مدروسة لتنهض على قواعد علمية وتعليمية تضمن لها النجاح والريادة...من أهم هذه القواعد وضع أهداف محدّدة من الابتعاث إلى جامعات الغرب..والتعامل مع الثقافة الغربية..هذه الأهداف هي الاستفادة من تلك الثقافة لا الذوبان فيها.. والتأمّل في الحضارة الغربية والاستفادة منها استفادة التلميذ.. فاهتمت باستيراد المعارف والعلوم بينما استوردنا نحن - كأمة عربية- البضائع الاستهلاكية وصرنا(زبونا) أمام حضارة. بينما نهضت اليابان كمنافس وكانت أعظم ملامح تفوّق اليابان واثبات نجاحها أنها حافظت على لغتها وعلى ترسيخ التمّسك بها مع الانفتاح على جميع الحضارات والثقافات من خلال الاهتمام بالترجمة. حتى صار الكاتب الغربي يصدر وتصدر معه الترجمة اليابانية منه. بينما انسقنا نحن كأمة عربية خلف الثقافات الغربية وتبرّأنا من لغتنا العربية .. وأصبحنا نلهث خلف اللغات الأجنبية ونتباهى بتعلمها.. وفُرض علينا تعلّم الطب والهندسة بلغة أجنبية ظنا خاطئا بأن ذلك يكفل إجادة اللغة وإتقانها والمؤسف في الأمر أننا إذا طلبنا من طالب طب تخرّج من جامعتنا أن يكتب صفحة واحدة باللغة العربية وصفحة باللغة الانجليزية لوجدنا أنه لا يجيد ذلك ولا يمكنه.. وأن فعل جاءتك الأخطاء في كل سطر وجملة لتنبئك بحال لا تسر. قد يرى البعض في سطور مقالي ما يحبط ..وقد يرى البعض الآخر دعوة إلى التعلم من تجارب الأمم والشعوب . ومقالي في الواقع موّجه إلى الفئة الثانية – كما أنه دعوة إلى إعادة النظر في أسلوب التعليم ونظامه وطرقه لدينا. نحن لا نريد أن نخرّج الأجيال من المدارس والجامعات فحسب .. بل نريد أن نهييء لأنفسنا بهم مكانا تحت شمس النجاح والتفوق والريادة نريد أن نخرّج قوّة عاملة منتجة قادرة على الابتكار وتجاوز دور الاعتماد على الغير والتواكل.. رافضة أن تكون قوة مستهلكة. نريد قوّة طامحة متطلعّة نحو الإنتاج وجديرة به ، متقنة لتقنياته وأدواته.