تقاس حضارات الأمم بموروثاتها ومكتسباتها عبر التاريخ وتدلل آثارها على عظمة سكانها وانجازاتهم عبر مسيرتهم التاريخية التي قد تمتد لالاف السنين، ومدينة جدة التي تقف بشموخ عبر تاريخها العريق على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، فقد اكتسبت شهرتها لوقوعها بين الحرمين الشريفين، فهذا بيت الله العتيق في مكةالمكرمة – زادها الله رفعة وتشريفا – لا يبعد عنها سوى (75 كيلا)، وهذه طيبة الطيبة مثوى سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم (تبعد عنها ب 425 كيلا)، وبذلك فقد استمدت عظمتها وعراقتها بقربها من الحرمين الشريفين، ولخدمتها للإسلام منذ أن اتخذها سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – ميناء لمكةالمكرمة لخدمة حجاج بيت الله الحرام والقادمين إليها من كل فج عميق، ولخدمة زوار مسجد سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم. وقد أعطاها موقعها المميز وتوسطها على ساحل البحر الأحمر نمطا فريدا في أن تصبح مدينة حيوية ذات نشاطات متعددة: دينية، وتجارية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية تخدم ظهيرها التجاري ( جميع المدن والقرى والهجر التي تقع في السهل التهامي)، كما امتد تأثيرها لبقية أجزاء المملكة بكل كفاءة واقتدار. ولمدينة جدة تاريخ طويل يمتاز بالعراقة والأصالة والثقافات الراقية والعادات الحسنة المكتسبة من الشعوب المجاورة، وبحسب حركة تواصلها مع الثقافات المتحضرة في العالم القديم من خلال تواصل تجارتها المتنامية عبر البحر الأحمر. ولعلنا نركز حديثنا – عبر هذه المساحة - عن جدة القديمة، تلك النواة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، والمعروفة بطيبة أهلها، وسماحة شيبها وشبّانها، وبحاراتها القديمة، وأزقتها الضيقة، وبيوتاتها الشامخة، وأبوابها المزخرفة، ورواشينها الجميلة، وأسواقها المزدحمة، وعراقة بيوتاتها التجارية التي امتلكتها وأدارتها أسماء لامعة قد امتهنت التجارة منذ مئات السنين، وبرعوا فيها وأصبحوا روادا لها منذ أمد بعيد، وانعكست أنشطتهم التجارية على ثقافاتهم المتعددة والمكتسبة من تعاملهم الراقي مع مختلف الشعوب، فكسبوا شعوب العالم من خلال حسن تعاملهم الراقي المتمثل في الصدق والأمانة والمروءة الكاملة وحسن التعامل مع الآخرين. قلب جدة اليوم (أو نواتها التجارية القديمة، أو كما يحلو للبعض تسميتها بالمنطقة التاريخية) عليل ويتألم مما آلت إليه أحياؤها القديمة (الشام والمظلوم واليمن وحارة البحر)، فبعد أن كانت هذه الأحياء تموج بالحركة والنشاط لبضع مئات من السنين من أهل البلد الأصليين، أصبحت اليوم خالية من أهلها الذين ولدوا ونشأوا فيها، وعمروها، وأنشأوا دورها، ورعوا أسواقها ومناشطها الاقتصادية، وأخيرا هجروها في رحلة طويلة نحو الشمال بعد طفرة النفط التي عمت البلاد، وبذلك تركوا أجمل بيوتاتها وعماراتها المفعمة بالأشكال الهندسية والعمارة الإسلامية إلى العمالة الوافدة التي عاثت في هذه الدور فسادا، فهدمت معظم جوانبها، وانهارت معظم أجزائها، واتسخت شوارعها، وتعرض أزهى وأبهى رواشينها وأبوابها للحريق الذي التهم معظم معالمها الجمالية التي لن تتكرر ولن تعود بنفس الجودة والبراعة التي صنعت بها بالأمس، وإن حدث وامتدت لها يد الإصلاح فربما نحافظ على جزء من موروثاتنا القديمة التي تدلل على حضارتنا عبر تاريخنا الطويل. نحن نناشد أهالي مدينة جدة وتجارها الكبار وأصحاب بيوتاتها المعروفة في أن يساهموا (كما يفعلون دائما) وبالتنسيق مع أمانة محافظة جدة في إعادة إعمار وإصلاح ما اندثر من المنطقة التاريخية (تحت إشراف عدد من أبنائها أهالي المنطقة نفسها وهم كثر والحمد لله)، التي تحمل ذكريات جميلة لمعظم سكانها وأهلها الأساسيين الذين ولدوا وتربوا وترعرعوا في تلك الدور وبين حواريها وأزقتها المفعمة بنسمات بحرها الجميل، فكما أن جدة قدمت لهم الشيء الكثير فمن حقها عليهم أن يردوا لها بعض الجميل، في أن يحافظوا على ما تبقى من أطلالها وأن يعيدوا لها حيويتها وجمالها، وأن يحافظوا على مكتسباتها القديمة المميزة من العبث والخراب، وأن يخرجوا العمالة الوافدة منها لتبقى كآثار جميلة يستمتع بها السياح والزائرون، ولنحكي للجميع بأن لدينا ماضيا عريقا وتاريخا طويلا نفتخر به. فلولا ضيق مساحة المقال لكتبت عن جدة وأهلها الشيء الكثير. [email protected]