قال أهل التاريخ: فعزم أبو جعفر المنصور على إعادة بناء الكعبة فبعث إلى مالك بن أنس يستشيره فقال له مالك رحمه الله: (يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإني أخشى أن يكون بيت الله بعدك ألعوبة، فتذهب هيبته من القلوب). والذي يعنينا من هذا النبأ قول الإمام مالك: (فتذهب هيبته من القلوب) إن لكل شيئًَا هيبة هي سر بقائه وانتفاع الناس به فمتى ذهبت لم يعد له أثر يحمد ونفع يذكر. حاجة المسلمين إلى ولي أمر يأمن في حكمه الشاكر ويرتدع الفاجر أعظم من حاجتهم لأي شيء، لأن كل شيء يتعذر قيامه إن لم يكن الأمن قائمًا، ولا يكون هذا أبدًا من غير هيبة حكم، والناس وإن ادعوا الرغبة في الإصلاح ومحاربة الفساد إذا رضخ لهم الحاكم الأمر وخفض لهم الجناح (ضعفًا) ركبوه، ولم يبالوا في أي واد هلك. والذين ثاروا على عثمان رضي الله عنه كانوا يزعمون أول الأمر أنهم يريدون أن يعيدوا عثمان للجادة وسنة الشيخين قبله، فلما خفض لهم الجناح ونهى الناس عن قتالهم وكف يده وأغلق داره لم يزدهم ذلك إلا طغيانًا وتجبرًا، فكان أن حرقوا داره وقتلوه وسلبوا ما كان في بيت المال وآذوا زوجته وقتلوا غلاميه. فجمعوا بين القتل والنهب والتعدي على الأعراض وأعظم من ذلك التعدي على حرمة الخلافة، كل هذا وهو يزعمون الإصلاح. كما يحكى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم يبالوا بحرمة الشهر (ذي الحجة) ولا حرمة البلد (المدينة) ولا حرمة (الخلافة) فضلًا عن حرمة دمه رضوان الله عليه ما تلألأت النجوم وتلاحمت الغيوم. إن أي سعي لإذهاب هيبة الحكم في العالم الإسلامي إنما هو فساد في الأرض، سواء كان ذلك مظاهرات أو اعتصامات أو نداءات أو غير ذلك، فليس شيء من هذا من السنن الشرعية في التغيير بل هو من السنن الكونية، وليست كل سنة كونية أذن الله بها، فوقوعها وأثرها أيًا كان لا يعني بالضرورة جوازها، فالله - مثلًا- حرم شرعًا قتل النفس المؤمنة عمدًا بغير حق، وأذن به جل وعلا قدرًا، فهو يقع كل يوم بل كل ساعة. والمقصود أن الله أوجب على الراعي مسؤوليات عظام، وعلم جل وعلا أزلًا أنها من الثقل بمكان، ولهذا لا أحد يسبق الإمام إذا عدل في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. فإن وقع منه التفريط أو الإفراط فثمة طرائق شرعية منوطة بأهل الحل والعقد، يلتمسونها حتى يستقيم الحال وينجلي الفساد أو يقل. أما إشراك العامة في شأن الأمة العام كبارًا وصغارًا أبرارًا وفجارًا عاقلًا وسفيهًا والاحتكام إلى الشارع، فهذا مخالف للعقل قطعًا وهو بهذا مخالف للشرع، إذ يستحيل أن يتعارض العقل والنقل. وإن من لوازم أن ينحى حاكم بناء على رأي الشارع فيه أن يُقبل قولهم في صياغة النظام الجديد، فليست الأولى بأولى من الثانية، فهل يعقل أن يستوي في الواقع والأثر والعدد رأي الشيخ المجرب والكهل المتعلم مع رأي السفيه الأرعن والمرأة الضعيفة والصبي اللاهي؟ لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من زمن ينطق فيه الرويبضة، وبين أن الرويبضة الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، وليس المقصود بالتافه من قل ماله أو سملت ثيابه فالإسلام لا يحتقر أحدًا، لكنه الضعيف العقل كيف يقبل رأيه مع ضعف عقله في مسائل عظمى تزل فيها أقدام وتحتار فيها أفهام. وعليه فإبقاء هيبة الحكم ومعرفة حرمتها مع القيام بواجب النصيحة وسؤال الله صلاح الحال والمآل، هو الطريق الشرعي لكل نازلة عمت وظلم يقع وفساد يحل (والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون). ولهيبة الحكم طرائق شرعية وكونية: • فأما الشرعية فتعظيم أمر الله وإجلاله ومن صور ذلك تعظيم القرآن وأهله، ونشر السنة وإقامة شعائر الدين الظاهرة، والافتخار بالانتساب إلى دين رب العالمين والاعتزاز به. • ومنها أسباب كونية قدرية، ومن أعظمها عدم انقطاع الحاكم عن لقاء الناس حتى لا تظن به الظنون، وتكثير سواد الشرط فلهم في العيون مرآى وهيبة، وإنفاذ الحدود الشرعية عاجلًا لمن حكم عليه بها شريفًا كان أو ضعيفًا، ومحاسبة المقصرين ومكافأة المحسنين، وفي صريح التنزيل (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنًا). والاستعانة بعد الله بأهل الفضل والمروءات وذوي الرأي والحجا، ومعرفة قدر من لهم في الناس أثر مثل العلماء ومشايخ القبائل وأعيان الأسر، وفي وصايا بعض العلماء لابنه (يا بني لا تتقدم على من قدمه الناس). وطالما ثبت هذا فليس من المقبول ما يعرف اليوم بالبيانات التي يدونها بعض المثقفين والفضلاء بحجة النصيحة، وفيها من المطالب ما يفهم منه أن المراد التقويض لا البنيان، والوصول إلى الكراسي لا إصلاح أصحابها، وقد يكون هذا غير مقصود لمن كتبه لكن الكلمات إذا دونت وقرأت خرجت من قصد صاحبها إلى فهم قارئها، وفيها ما يذهب شيئًا كثيرًا من هيبة الحكم، إذ إن مثل هذه البيانات يتناقلها الناس ويتدارسونها في مجالسهم وأنديتهم وهم يختلفون قطعًا - عقلًا وقصدًا- وليس كلهم إن سلمت نيته سلم عقله أو إن سلم عقله سلمت نيته، فيحدث من إثارة الضغائن وبث الفوضى ما يدفع الأحمق أن يتجرأ، والسفيه أن يتطاول. وإذا وجد في زمن النبوة من لم يرتضِ امرة أسامة بن زيد فلن تعدم في زمانك من لم يرتضِ امرة غيره. ولا يفهمن متعجل أن المقصود إطلاق يد الحكام ليفعلوا في الناس ما يشاؤون - معاذ الله - لكن الأمور تصلح بالشرع ولا شيء غيره، والشرع قيد وأي قيد وتحرر بعض الحكام منه يجعلهم يبوءون بإثمه لكن ليس الصواب أن يتحرر الآخرون من قيد الشرع فيكونوا سواء. وكل ما حررته أردت به الإجمال والصفات لا التفصيل والذوات، أما ما نحن فيه في هذه البلاد المباركة، فإن الواقع أعظم الشهود احتكام للقرآن وائتلاف للقلوب ووحدة كلمة، وهي نعمة عظمى ومنة كبرى، وإذا وقع التقصير، فلا ينبغي أن ينقطع حبل الناصحين لكن وفق هدي دين رب العالمين. إننا نحترم ما اختارته بعض الشعوب العربية لأنفسها، ونسأل الله لهم صلاح الحال والمآل، لكننا نخشى عليهم من أمر تذهب سكرته وتبقى حسرته. وندرك تمامًا أن سنن الله تقضي ألا يترك ظالم على ظلمه فكيف إذا كان ظلمه أن جعل كتاب الله وراءه ظهريًا. جاء في بعض الآثار أن موسى سأل ربه: (أي رب أرني عدلك، فأمره الله أن يذهب إلى نهر فينظر ما يكون، فجاء فارس معه صرة فيها مال فشرب من النهر ثم مضى ونسي الصرة، فأعقبه صبي على مكانه فأخذ الصرة بمجرد أن رآها ومضى، ثم جاء رجل أعمى للمكان نفسه ليشرب، فعاد الفارس يبحث عن الصرة، فسأل الأعمى فأخبره بأنه لم يجد شيئًا، فاغتاظ الفارس منه وقتله ومضى، فقال موسى: أي رب أين عدلك؟ فأوحى الله إليه: أما الفارس فقد سرق الصرة من والد الصبي فأعدتها إليه، وأما الأعمى فعندما كان مبصرًا قتل والد الفارس من قبل فجعلت ابنه يقتص منه، فنال كل أحد في الدنيا حقه، (ولا يظلم ربك أحدًا). وأكثر ما نراه حولنا اليوم قريب من هذا، (وما يعقلها إلا العالمون) وسنتدارس إن شاء الله في الحلقة القادمة هيبة (العلم).