عندما أقول أو تسمع أحدًا يقول لك.. عد إلى طفولتك أو كن كالأطفال في إحدى صفاتهم.. لا بد لحظتها أن تضع تحت نظرك وفكرك عدة أمور: 1- الطفولة.. هي مرحلة (أولية) في شريط الزمان الذي تراكمه على طول حياتك بمعنى.. أنك امتداد لهذه الصفة أو هذه المرحلة الزمنية. 2- الطفولة.. هي التي نقصد بها (الأصولة) في إنسانيتك.. ذلك أن الأصل (تركيبي) بمعنى مصاحب لكيانك طالما حييت. 3- الطفولة.. لا توجد فيها إرادة.. بمعنى أنها تسير بما تمليه عليها الفطرة والطبيعة الحيوية الصادقة وذلك يعني أنها متسقة مع نظام الكون المرتب.. لأن الإرادة هي محك المسؤولية وهي ما يجعل الإنسان يشذ عن نظام الكون (هذا لا يعني أنها نقيصة). 4- الطفولة.. عذرية فكرية بمعنى أنها تتحد مع الحقيقة قبل أن تضع الحواجز الاسمية التي هي شيء غير المسمى. 5- الطفولة.. لا تعرف الأقنعة فهي شفافة يرى الخارج الداخل ويعكس الداخل إلى الخارج فلا يحتاج إلى أنشطة تخفي الحقيقة مما يؤثر في صفاء النفس. 6- وأخيرًا الطفولة.. لا تكف عن طرح الأسئلة.. فهي تريد أن تفهم وجودها لتعانقه.. فالطفل نشاط فكري مستمر لمحاولة الفهم.. وهو برأيي ما يحقق وجودي كإنسان متطور.. وأترككم مع كلمات الدكتور الكبير مصطفى محمود – رحمه الله – في يومياته على نص الليل يقول: حينما كنا أطفالًا كانت الدنيا تبدو في عيوننا متحفًا رائعًا مليئًا بأشياء غريبة مذهلة مدهشة.. وكنا لا نكف عن الدهشة كلما وقعت عيوننا على شيء.. ولا نكف عن السؤال.. ولا نكف عن الفضول.. ولا تشبعنا إجابة.. إذا قالوا لنا هذه شجرة.. عندنا نسأل بكل براءة.. وما الشجرة؟.. فيقولون لنا.. نبات أخضر.. وما النبات الأخضر؟.. نبات له جذور وفروع وأوراق.. آلاف الأسئلة ولا نهاية ولا شبع.. ولا جواب يشفي غليل العقل المتطلع إلى الحقيقة.. لا شيء يضيء هذه الحياة سوى اللحظات الطفولية.. اللحظات التي نرتد فيها إلى طفولتنا وبراءتنا ونشاهد الحياة في بكارتها ونظافتها وعذريتها من قبل أن تدنسها الكلمات.. لحظات الصحوة والانتباه والرؤى الطاهرة التي تقفز بنا عبر أسوار المألوف والمعتاد وتكشف لنا وجوهًا أخرى من وجوه الحقيقة.. وهذا أعمق ما في الطفل.. تلك البراءة التي لا تعرف الخوف ولا الخجل ولا الكياسة ولا المجاملة.. حينما يرفعه إلينا الطفل وجهًا يقطر بالبراءة والسذاجة ليسألنا: من أين جئتم بي إلى هذه الدنيا؟ كلنا أرحنا أنفسنا من الأسئلة ومن الأجوبة.. وشغلنا أنفسنا بما نأكل اليوم وما نشرب.. وكيف نقتل ملل هذا المساء ولكن الطفل البريء العميق.. مشغول.. وهو يطرح علينا سؤاله بكل براءة.. ومن هذه اللحظات النادرة.. من هذا القلق الطفولي العميق الذي يهتك ألفة الأشياء المألوفة فتبدو غريبة غير مألوفة.. تتدفق الأسئلة التي يتألف منها فكر الإنسان وحضارته وتقدمه.. بدافع هذا القلق النبيل يعيد الإنسان النظر في كل شيء.. ويرفع المنظار المبتذل الذي يضعه على عينيه ويكف من الرؤية العادية المبتذلة.. ويبدأ في تقدير الأشياء بمعيار جديد ويحلق فوق مستوى غرائزه.. ويرى أبعد من أنفه ويصلح من هندامه.. ويطور من تفكيره ولا يعيش ويموت كذباب ملتصق بالعسل...) عبدالمجيد حسين تمراز - جدة