الوسطية طريق التعبد الأصيل، التزامًا بموثوق الله (عز وجل) لعباده؛ الذين أمرهم أن يسلكوا هذا السبيل، وأن يستقيموا على هذه السنن، باعتبار أن مناط الشهادة على الأمم كلها قائم على تحقق هذه الوسطية، في العقيدة والشعائر والشرائع والقيم والنهوض الحضاري، فالوسطية قيمة أصلية، نتعامل بها من منطلق الإيمان بهذا الدين العظيم. والوسطية من أقوى السبل والطرائق التي من خلالها يصوّب الفكر، ويرشد الخطاب، إما من ناحية الغلو والاعتداء؛ الذي يؤرقنا، ويقض مضاجعنا، ويستخف بالدماء التي اتفقت الشرائع على صونها: أيها الناس، إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، وإما من ناحية الاهتراء الأخلاقي؛ الذي يجرد الأمة من قيمها ومبادئها؛ التي من أجلها أناط الله بها الخيرية، والشهود الحضاري على العالم أجمع، إلى أن يرث الأرض وما عليها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ). لقد أصبحت الحاجة ملحة إلى إبراز الوسطية؛ لأن المرحلة التي يمر بها المسلمون الآن، تقتضي منهم العودة إلى الوسطية - منهاجًا وممارسة- والنفرة خفافًا وثقالًا، في الميادين المختلفة؛ من أجل مواجهة الهجمة الشرسة التي تواجههم، وإدراك أبعاد وسائل الغزو الفكري، وأهدافه؛ التي يعمل لها في بلاد المسلمين، وذلك حتى يحقق المسلمون الحصانة الحضارية، والمناعة الفكرية للأمة، والحيلولة دون سقوطها، بما يُراد لها في هذا الزمن؛ الذي يتعاظم فيه أجر الالتزام بالقيم الإسلامية، بتعاظم الفتن، التي لا بد من مبادرتها بالوسطية، كمسالك، ونماذج عملية، تحقق الحماية، وتحمي نسيج الأمة، وتحول دون الذوبان. ووسطية الإسلام تقر بفريضة الجهاد، وأنه من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، غير أن تفهمه يجب أن يكون في إطار عدد معتبر من القواعد والمقررات، فمن الإجحاف البين حصر معاني الجهاد ومضامينها في مباشرة القتال والقتل، وامتشاق الحسام في وجه الخصوم، فمفهوم الجهاد أوسع مدى، وأكثر رحابة. والمتأمل في الدلالة اللغوية والشرعية للجهاد لا بد أن ينتهي إلى أنه يشمل معاني عديدة متنوعة، منها: الجهاد بالحجة والبيان، وبكلمة الحق، وبرعاية الأبوين، كما يشمل القتال ردًّا على عدوان المعتدي، ودرءًا للفتنة، ونصرة للمستضعفين، وفي ذلك يقول ابن تيمية: “الجهاد إما أن يكون بالقلب كالعزم عليه، أو بالدعوة إلى الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجة على المبطلِ، أو ببيان الحقِ، وإزالة الشبهة، أو بالرأي والتدبير فيما فيه نفع المسلمين، أو بالقتال بنفسه”. ونخلص من تعدد صور الجهاد السابقة إلى عدم انحصاره في ميدان بعينه، كما أن النظرة إلى الجهاد في واقعنا المعاصر يجب أن تكون متجددة على ميادينه؛ التي اتسعت بتطور الزمن، وتسارع إيقاع الحياة، وبالنظر أيضًا إلى ما يقتضيه حال المسلمين اليوم، من وعي حضاري بطبيعة المعارك المعاصرة، ومن أهم أشكال الجهاد المعاصر: الجهاد العلمي والحضاري والروحي والإعلامي والفكري والتنموي والسياسي، إضافة إلى القتال؛ الذي من أبهى صوره المقاومة؛ التي تتصدى لمواجهة المحتل، المغتصب للأرض، المنتهك للحرمات. وعلى ذلك، فإن كل مسلم يجب أن يكون مجاهدًا، وليس بالضرورة مقاتلًا؛ إذ إن مجاهدة النفس والشيطان، والمنكرات، والمشركين بالقلم واللسان، والمال والسنان، لا يتصور ألا يكون للمسلم فيها نصيب، بخلاف القتال؛ الذي لا يتأتى إلا عندما تتهيأ أسبابه. • مفكر إسلامي.